عنوان الموضوع : اخرج منها يا ملعون
مقدم من طرف منتديات الضمير العربي

أخرج منها ياملعون

هرب الشيطان بعد أن كثرت أعداد من يقوم بواجبه من البشر

الجزء الأول (1)




رواية لكاتبها: صدام حسين


تعيش الشياطين، حسب اعتقاد من يعتقد بذلك، وتفرخ بين أعمدة الخشب في البيوت العتيقة، حيث تشكل تلك الأعمدة مساند سقوفها، أو بين أعقاب النبات والحطب حيث يخزنان، أو في المغاور، والشعاب، والأكواخ المهجورة، وفي بقايا جدران إرم ذات العماد، التي غضب الله على أهلها فهلك من هلك وهجرها الناس، أو في خرائب بابل، التي هجرها أهلها بعد أن دمرها الفرس، وفق تدبير تآمر به معهم اليهود الذين جاء بهم نبوخذ نصر أسرى إليها.. أما الآن، فقد تكون موجودة في وسائل الاتصال، وفي شاشات التلفاز، وفي المقتنيات الحديثة، وما يمكن أن تغري به، أو في عيني امرأة شرهة سوتهما بأصباغ هذا الزمان وفق نزعتها، بعد أن لصقت عليهما عدستين ملونتين تحجبان لون عينيها الأساس، بحيث لا يعرف المرء من خلالهما متى ترغب أو لا ترغب بكل شيء، وأي شيء، مما هو مشروع، أو غير مشروع، ومتى تستحي.. وتستعصم بالله، فتعز نفسها وأهلها، أو تنزلق في مهاوي الشيطان، فتخزي نفسها وأهلها.. أو في نزعات الرجال عندما يصبون إلى ما لا يرضي الله، وعندما يغضبون ولا يتذكرون أي شيء مما ينبغي أو يجب، إلا ما يناسب هوى أنفسهم وغضبهم.. وهي في كل الأحوال، موجودة حيثما وجد طمع وطامعون، وظلم وظالمون، وشر وأشرار، حتى لتخالها موجودة في سدادة مدفع، أو في خزانة مترعة بمال حرام، أو محرك طائرة، أو زعنفة قنبرة طائرة، أو صاروخ مدمر، أو احتلال اجنبي مغتصب، أو في مغاليق السجون وخلف قضبانها، حيث تضم في زواياها أبرياء أو أناسا يناضلون ويجاهدون حبا بالله ضد الكفر والظلم، أو يناضلون من أجل الحرية، بل لعلها موجودة في صدور أصحابها، وفي دمائهم، وحتى في نواياهم، والأقلام التي يخطون الباطل بها على الورق، ويهيئون له، أو في ما يضمرون.
ومع كل هذا، تكيف الشيطان ليكمن في مفرداتها، أو يحرك ما يقتضي ليهيج الشر، وبذلك طور وجوده، وفعله مع تطور قدرة الإنسان ووسائله، فتحول الشيطان من الشكل التشبيهي القديم، الذي عرف به في رسومات وتخيلات الأقدمين: عينان مسحوبتان عرضا أو طولا، وشعر أشعث منتصب إلى الأعلى فوق رأسه، رافض أن ينسدل مسرحا مع رقبته، أو متدليا من الرأس على الكتفين، أو حتى وردة الأذن، كما هو الحال في الإنسان، وصار الشيطان يتخلل الإنسان إلى الحد الذي بات الدراويش، أو المعنيون بالطب الروحي، غير قادرين على إخراجه من جسم من يتخلله عابثا بروحه، حتى لو رددوا آلاف المرات، وهم يضربون الأرض بعصيهم على مقربة ممن دخله الشيطان، أو حتى على قفاه، وهم يصيحون، بعد أن يقرأوا ما يقرأونه: اخرج منه، أو منها، (يا ملعون).
صار الشيطان كأنه مندمج بالإنسان المناسب لوصفه، بعد أن تخلله، أو صار الإنسان المعني فعلا، من ناحية الصفات والأثر، بوصف يجعله كأنه شيطان، أو أن الشيطان هرب من المكان، بعد أن كثرت أعداد من يقوم بواجبه من البشر، فانزوى بعيدا.
وفي كل الأحوال، بقي الشيطان متخللا ومستقرا في ضمير، وعقل، وتفكير، وفعل من يقبل ولايته عليه، إلا أنه بقي بعيدا، بعد أن اخفق مع أولئك المحصنين بدروع إيمانهم وعقيدتهم، الذين يرفضون الولاية إلا للرحمن الرحيم والمؤمنين الذين يسعون ويفكرون، ويتأملون وفق ما يرضي الله، ويتجنبون ما ينهاهم عنه، سبحانه.
قبل حوالي ألف وخمسمائة عام، أو نحو ذلك، وبعد ذلك، وإلى حين، كان الناس في العالم كله يعيشون عيشة متواضعة بوجه عام، وكان حجم الخير والشر في صدورهم وأنفسهم، ومن بعدها في تصرفاتهم وعلاقاتهم مع بعضهم، موجودا، في المكان والمسمى المناسب له.. لكن الخير والشر كانا يعبران عن نفسيهما وتأثيرهما طبقا لوسائلهما وقدراتهما آنذاك، لذلك كان الشر متواضعا أيضا بالقياس بما هو عليه الآن، إلا أن قدرة الخير كانت أكبر، لأن حجم وعمق تأثير عدد من يحملونه كانا أكبر.. ورغم أن قدرة إقناع من يقتنع به من بني البشر، كانت متصلة بمستوى حصانة وعي وإيمان هذا أو ذاك من الناس، وقد كان الناس أميين إلا قليلا منهم، فإن جرائم وتأثير من يقنعهم بالشر، بعد أن يغويهم الشيطان، كانت محدودة أيضا بالقياس بما عليه الأمر الآن.. لكنها كانت موجودة، وكان الشر وأهله، إلى جانب الخير وأهله، موجودين في ذلك الزمان أيضا.. وكان الله، رب العالمين، فوقهما، يرصد كل فعل ويسجله له أو عليه، وعلى هذا، يسجل لكل وفق استحقاقه، ويسجل فعل الشيطان أيضا.
كان إبراهيم يحكي جانبا من هذا لأيتام أولاده الثلاثة، الذين قتل آباؤهم في غزوات ومنازعات قبلية، وما أكثرها في ذلك الزمان في شبه الجزيرة العربية، الممتدة بين الخليج العربي والبحر الأحمر، وتضم العراق ودول الخليج العربي واليمن.
وشاءت الصدف هكذا، أن يخلف أبناؤه المقتولون الثلاثة، ثلاثة أولاد ذكور، أي ابنا واحدا لكل منهم، وهم: حسقيل ويوسف ومحمود، وقد نشأ الأولاد الثلاثة في كنف جدهم إبراهيم، وكان الجميع ينادونه (أبتي) وينادون جدتهم حليمة زوجة إبراهيم (أمي)، أو (أمنا).. ذلك لأن أمهاتهم عدن إلى أهلهن بعد وفاة أزواجهن.
وعندما انتهى من حديثه، كانت إلى جانبه زوجته حليمة، التي تكنى أم الخير، تغزل بمغزلها خيوطا من الصوف لتعمل لمن اهترأ ثوبه ثوبا جديدا.. وكان البيت الذي يسكنون (يكنون) فيه بيتا من الشعر..
عندما كان إبراهيم يحكي، جاءت «سخلة» صغيرة من غنمهم، وحاولت أن تلحس فروة إبراهيم، ومن غير أن يقطع كلامه، كان إبراهيم يشاغلها بيده، ليصدها عن الفروة، بأن يمسح على وجهها، أو يناولها اصبعا من أصابعه، ترضعه (متلهية)، مثلما (يتلهى) الصغار الآن برضاعاتهم الاصطناعية، وعندما يسأله صغيرهم محمود:
هل في اصبعك حليب، يا أبتي؟
يقول:
لا، الحليب في ضرع أمها، يا بني، لكنها تتلهى مثلما تتلهى أنت عندما تركب على حبل مقدم البيت.. فحذار من أن تنكسر رقبتك، إذا هويت إلى الأرض، لكن الفرق بينك وبين السخلة في هذا، أن السخلة تلعب بأصبعي، وهو أمين، لا يؤذيها، بينما إذا ركبت الحبل، قد تقع منه، بعد أن يختل توازنك، وعندها قد تكسر يدك أو رجلك، وربما رقبتك، وبخاصة إذا أراد حسقيل أن يتخابث معك ويهز الحبل..
كان محمود، عندما يسمع قول أبيه (وربما تكسر رقبتك)، يتحسس رقبته، وبالكاد يبلع ريقه، ويضحك أخواه، في الوقت الذي تتبسم أم الخير، حليمة، التي نسب إليها هذا الوصف والكنية، بسبب تقدير إبراهيم والناس لها.
استأذن أوسطهم وهو يوسف، والده وقال:
* أنا أيضا، يا والدي، ألاعب الحبال أحيانا، أو ألعب عليها، ولم يحصل أن وقعت منها!.
قد تقع يوما، يا ولدي، مهما كانت مهارتك في اللعب عليها.. أبعدكم الله، يا أولادي، عن شر اللعب على الحبال ومسلكها.. ان الابتعاد عنها خير من الاقتراب منها واللعب عليها، إذ أن كثيرا من الناس ممن امتهنوا اللعب على الحبال، بدلا من اتخاذ مسلك آخر أكثر ثباتا في الحركة، يجدون في نهاية المطاف ما يجعل توازنهم يختل ويقعون منها، وقد تودي بحياتهم.
قال محمود:
* وماذا لو لاعبت شجرة متنقلا بين أغصانها؟! أجابه إبراهيم:
مع الانتباه إلى طريقة التصرف والمغامرة مع الشجرة، فإن التسلي مع الشجرة افضل، لأن عروق الشجرة في الأرض والشجرة عميقة الجذور، لذلك فإن صلتها بالأرض عميقة وراسخة، ومن تكون صلته بالأرض عميقة وراسخة يكون أكثر ثباتا وأكثر حنوا، ولا يخون صاحبه، لذلك فإن الشجرة لا تخونك لو لاعبتها، أما الحبل فإنه في الهواء، وصلته بالأرض من خلال أوتاد فحسب، وليس من خلال ذاته.. لذلك لا يكون استقراره كاستقرار الشجرة، ولا يكون الأمان معه نهائيا.. وبخاصة لو اقتلعت أوتاده، وأنت تلاعبه أو تلعب عليه.
سأل حسقيل أباه:
* هل الرب الذي تحدثنا عنه موجود قبل أن يخلق الإنسان؟ وهل هو في السماء، يا والدي؟
نعم، يا بني، إن الله، سبحانه، موجود قبل أن يخلق الإنسان، وقبل أن يخلق كل ما هو حولكم مما ترونه أو تلمسونه، بل إن الله، جلت قدرته، هو خالق كل شيء، وخالقنا، وهو محيط وموجود حيث شاء.
انبرى يوسف متسائلا:
* وهل خلق الله «السخلة» أيضا؟
نعم، يا ولدي، خلق الله السخلة أيضا، هي وأمها وأباها، وخلق الحيوانات والأشجار والأنهار.
هكذا أجاب إبراهيم ابنه الأوسط يوسف.
كانت أعمار الثلاثة متقاربة، بفارق عام ونصف العام، أو ما يزيد أو يقل عن ذلك قليلا، بين كل واحد وآخر.. وكان عمر أكبرهم اثنتي عشرة سنة، ويأتي بعده أخواه متسلسلين وفق هذا التقدير.
عاد حسقيل ليسأل:
* ولماذا لم يخلق الله إنسانا، بدلا من السخلة، يا والدي، مثلما تفعل أنت وأمي، حيث أراكما تتعاونان معا لتغزلا أو تحوكا ثوبا عندما يهترئ ثوب أحدنا، لكن عندما تهترئ بردعة الحمار ينشغل في تسويتها واحد منكما فحسب، غالبا ما يكون أنت لأن بردعة الحمار أقل أهمية من ثوب إنسان، أليس الإنسان أهم من السخلة، يا والدي؟ فلماذا ينشغل الله عن خلق إنسان بخلق سخلة؟! يجيبه إبراهيم:
إن قدرة الله، يا ولدي، تحيط وتسع كل شيء، وأنها ليست كقدرة الإنسان، بحيث يضطر لأن يحسب لكل شيء يخلقه زمنا وزخما قدرة بعينه، لذلك فإنه، سبحانه، في الوقت الذي يخلق إنسانا يستطيع أن يخلق إنسانا آخر أو جملا أو سخلة أو أيا من الكائنات الحية والنبات والأشجار.. ان الله قادر، يا ولدي، أن يقول لكل شيء، وأي شيء: كن، فيكون. أما نحن بني البشر، فلأن قدرتنا محدودة، فإننا نضطر، إذا ما انشغلنا بأمر أو شيء ما، أن نؤجل الآخر إلى وقت يليه، أو ان يقوم غيرنا بما لا نستطيع أن نقوم به، عدا عن أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش من غير أن يخلق الله له المخلوقات الأخرى من حيوان ونبات، بعد أن خلق الأرض والماء والهواء، بل ان واحدة من آيات الله أن خلق الإنسان في أحسن تقويم وسط المخلوقات الأخرى، وجعله أرقى منها، ليعرف دوره في الحياة الدنيا، بعد ان يشكر الله لتمييزه عليها.
وعندما يتدخل صغيرهم (محمود) سائلا:
* عندما تكبر السخلة، نشرب من ضرعها الحليب، أليس كذلك، يا والدي؟
يقول إبراهيم:
نعم يا ولدي، أحسنت.
كان الجميع يتلقون، مع تلقي إبراهيم هذه الأسئلة، ريح كانون التي تخترق بيت الشعر محدثة صفيرا.. سمعوا معه رعدا يتخلله برق، يجعل الغنم تجفل مرئية، في مدخل بيت الشعر، حيث تكون جلستهم قبالته عادة.
يقول إبراهيم:
اللهم اجعلها سنة خير، واحمنا من الصواعب.. وعاديات الدهر..
ويردد الجميع:
آمين.
في الوقت الذي كان إبراهيم يرد على أسئلة أحفاده، كانت أم الخير، منشغلة بالغزل، وعندما كانت تصغي إلى سؤال أحدهم كانت تتبسم، وتتوقف يداها عن الغزل، أو ما يتعلق به، مؤقتا، ثم تعود لتواصل عملها، ولا تنقطع عنه، إلا عندما يطلب إبراهيم أو صغيرهم ماء، فتأتيهم به في كأس (كوز) فخار من صنع العراق، ذلك لأن أحدا آنذاك لم يكن يعرف أفضل منه كيف يصنع أدوات الطبخ والأدوات الأخرى التي يحتاجها الإنسان، أو تأتيهم بالماء في (كوز) مصنوع من القش ومطلي بالقار، وهو الآخر يصنع في العراق، إما من سعف النخيل، أو ذؤابات القصب أو البردي، ويطلى بالقار.. حيث لا قار آنذاك إلا في العراق فحسب، لذلك نجد أرضية شارع الموكب في مدينة بابل الأثرية مطلية بالقار أيضا.. ومن الأمور التي ينبغي أن تعرف أن القار استخدم، في هذا الشارع في العصر البابلي القديم، في عام 1900 قبل الميلاد، ومع ذلك فهو أكثر جودة من القار المستخرج بالوسائل الحديثة الآن، شأنه شأن السيراميك الذي استخدمه العراقيون في العصر الآشوري الوسيط، في حوالي عام 1400 قبل الميلاد، والأصباغ في بابل، أو في شمال العراق، آنذاك، فإنها لم تفقد لونها رغم مضي ستة آلاف سنة على بعضها.
كان إبراهيم وزوجته يضعان الماء في قربة يعلقانها في زاوية بيت الشعر لئلا تدهمه عنزة، أو نعجة، أو كلب عندما يحس بالعطش، أو لمجرد العبث بها.. وكان إبراهيم يتدثر بفروته المصنوعة من جلود الغنم، ويجيب على الأسئلة، وكلما خبت النار التي كانوا يتحلقون حولها، اقترب منها الأولاد أكثر، حتى تكاد تلامس أجسادهم، وكلما أوشكت النار على أن تخبو بسبب تحول الحطب في الموقد إلى رماد بعد اشتعاله، لأم إبراهيم ما تبقى من أطراف الحطب الخارجية، ووضعها في النار لتعاود الاشتعال من جديد، وكان إبراهيم قبل أن ينتهي الحطب يأمر ابنه الأكبر حسقيل بأن يأتي بكمية حطب جديدة من الزاوية البعيدة للبيت، حيث يوضع لكي لا يكون رطبا بفعل المطر أو الندى.
في هذا البيت، كان كل شيء يحتاجونه، من الرحى الحجرية اليدوية، التي يستخدمونها للطحين والجرش، إلى قربة الماء، وقربة اللبن (الشكوة ( والدلو وحبله، الذي من غيره يتعذر إرواء الغنم وإرواء أنفسهم أيضا من بئر احتفروها قرب بيتهم، وبساطين أو أكثر حاكتهما حليمة هي ومن عاونها من صوف الغنم.. وكلما تقدم الليل وخفتت النار، كان صغيرهم محمود يقترب من النار فاتحا رجليه حتى تبان عورته، التي لم يكن يداريها بثوبه، لذلك كانت آثار اقترابه من النار تبدو كأنها دمغات أو) جزر) على جلده في بطن فخذيه، بل كان الأولاد الثلاثة يفعلون هذا، لكن محمود لصغر سنه كان أكثرهم مبالغة في فتح ساقيه والاقتراب من النار.. وعبثا كان (أخواه) الأكبر أو الأوسط يحاولان تنبيهه لكي يلم ساقيه، ويداري عورته بثوبه، وكلما ازداد البرد قبل النوم، ازداد اقتراب محمود من النار أكثر فأكثر.. لكن أمه كانت تنهرهما، قائلة:
اتركا الصغير ولا تضايقاه، فقد كنتما تفعلان ذلك عندما كنتما بعمره.. سوف يكبر ويتعلم.
يضحك الأب والابنان الأكبر والأوسط.
في أحد الأيام، فعل أخوهم الصغير الشيء نفسه، فيما كانوا يتحلقون حول النار، لكن حسقيل قرب جمرة بعصا صغيرة رويدا رويدا، حتى كادت تلامس قلفته، أو لامستها فعلا، وصرخ الصغير، وهب واقفا، واندفع باتجاه أخيه حسقيل ضاربا إياه على صدره بيده، في الوقت الذي كان يجر شعر رأسه باليد الأخرى.. فعل الصغير هذا إزاء حسقيل وسط لوم وتعنيف الجميع: إبراهيم وحليمة، ويوسف.
وما أن مرت أيام حتى اعتل حسقيل ب (وذمة) في لسانه، ورغم أن حليمة وإبراهيم حاولا ما وسعهما لإشفائه، لكن لسانه لم يشف، إلا بعد أكثر من شهرين.. ومع أنه شفي من (الوذمة) فإن احتباسا بلسانه كان واضحا، مما جعله يلثغ في الكثير من حروف اللغة العربية، وكانت لثغته واضحة بحرف (الراء) على وجه التحديد.
قال له جده (والده) إبراهيم:
آلمني تصرفك مع أخيك محمود قبل شهرين، عندما أصبت قلفته بالأذى، ولم يشف إلا بعد أن ختناه (طهرناه).. ولشدة ألمي دعوت عليك بالأذى، ولأن دعوة الأب مستجابة، فقد استجاب الله ربي، يا ولدي، لدعوتي عليك، وآمل وأدعو الله، سبحانه، أن يهديك بما يبعدك عن نزعات الشر، وما يمكن أن يصيب الناس منك من أذى.. حيث غالبا ما تتجه هذا الاتجاه خلاف أخويك، يوسف ومحمود، وكثيرا ما يكون أذاك منصبا عليهما، عدا ما يصيب الآخرين غيرهما.. وآمل أن تكف عن الطمع، حيث أراك تطمع في ما في حوزة أخويك، ومن يجاورنا.. إن الطمع يفسد الإنسان، ويجعل الناس يكرهون صاحبه، يا حسقيل، ثم انني أعرف أنك لا تعطي أحدا مما هو في حوزتك، حتى لو كان أمك حليمة، ولا تساعد أحدا، بل انك حتى (لا تبول على جرح أحد لو طلب منك ذلك(، كما يقول المثل عندنا..
قال إبراهيم هذا المثل، ذلك لأن البول غالبا ما كان وسيلة تعقيم الجرح البسيط، إذا لم يتيسر الرماد في المكان.. وقد اتخذ من البول مثلا على البخل والبخيل بأن يقال عنه (إنه لا يبول على جرح) لو احتاجه المجروح.
عاد إبراهيم ليقول:
إن الصفات التي تحملها، يا ولدي حسقيل، صفات غير حميدة، وأن الله، ربنا، لا يحبها، وإذا استمر سلوكك هذا، أخشى أن لا يوفقك الله، وتعيش منبوذا بين أخويك والناس، ومن يخسر رضا الله والناس، لن يعيش مرتاحا، حتى لو ملك كل ما يملكه الآخرون.. أترى، يا ولدي، أنك لو ملكت كل ما تطاله يدك في الوقت الذي لا يملك الآخرون شيئا، هل تتصور إمكانية أن تعيش مرتاحا وسعيدا؟، إنك حتى لو كابرت، وقلت: نعم سأعيش سعيدا، فلن تعيش آمنا، وسوف تبقى تلوح بعصاك على كل من يطمع بمالك، ذلك لأنك، وفقا لهذا الافتراض، قد حزته بسبب طمعك، وحتى عندما تقدر عصاك على واحد أو اثنين، فإنها ستعجز عن ذلك، كلما ازداد عدد الطامعين بزيادة ما تملك، وحرمان الآخرين من الملكية، أو كلما وجدوا أن من واجبهم أن يتضامنوا ويتحصنوا تجاه أطماعك فيهم وفي ما يملكون.. بل انك حتى لو استحوذت على ملكية الآخرين كلها، ستعيش معذبا في داخلك، وإذا لم يتعذب في داخله من يستحوذ على كل شيء، ويطمع في كل شيء، سوف يقعد له الناس المتضررون كل مقعد، ولن يجد حماية الله قريبة إليه.. وفي كل الأحوال لن يعيش سعيدا محبوبا من أقرانه ومن الناس.. فاحفظ وصيتي، يا ولدي، لأن العمر يتقدم بي، وأخشى أن أموت، ولا تبدل طباعك فتندم.
مرت الأيام، ولم يكن المطر في ذلك العام غزيرا في منطقتهم.. حيث كانوا على مبعدة من الحافة الغربية لنهر الفرات في وسط العراق، أو الحافة الشمالية من جنوبه.. لكن بعض البدو الذين كانوا يمرون بهم في ترحالهم، ذكروا لهم أن بلاد الشام (أصابها) مطر غزير في مناطق الجزيرة المحاذية للعراق. ولأن إبراهيم كان يملك أغناما وإبلا كثيرة، قرر بعد أن تشاور مع أم الخير، أن يرتحل إلى هناك، بإبله وأغنامه، اضافة الى عائلته، ولأن مشي من يرتحل عادة ما يجري على قياس أقل الحيوانات قدرة على المشي، فقد تطلب وصولهم إلى هناك زمنا طويلا.. وكلما ارتحلوا بين مثابتين باتجاه أرض الشام، حسبوا حساب الماء، بالإضافة إلى ما تأكله حيواناتهم، لتكون في وضع يمكنها من مواصلة المسير وكانت واحدة من مثاباتهم منخفض الثرثار شمال غربي تكريت وشمال الأنبار.. وعندما ارتحلوا من هناك كانت رحلتهم ليلا.
هنا قال ابراهيم موجها الكلام إلى حليمة، أم الخير:
لو صادف أن سبقتكم إلى المثابة التي نحن بصدد الوصول إليها، ضعي نجم الجدي، كأنه فوق كتفك الشمال، وامشي، إذ انك لو واصلت هذا الحال، ستصلين حتما إلى ارض الشام، ولو كان مقصدنا البو كمال في سورية، وواصلنا المشي كذلك، فسوف نصل إلى هناك من غير دليل.
وكان إبراهيم يعرف هذه الأرض جيدا، حيث سبق أن تنقل فيها على مدى عمره مقيما ومرتحلا.. وكلما نزلوا قرب عين ماء، أو بئر، كانوا في الغالب، يجدون من سبقهم إلى هناك، سواء من أهل المنطقة التي فيها البئر، التي يحطون قربها ليرتووا منها هم وأنعامهم، أو مناطق أبعد، وهم في طريقهم إلى ارض الشام أيضا.
ولأن إبراهيم غالبا ما كان يعرف ممن يسبقه إلى حيث ينزل، وبالذات من سكان المكان المستقرين نسبيا فيه، فقد كان وجوه القوم يدعونه هو وأبناءه لعشاء ذلك اليوم، وينحرون له الذبائح، ويدعون على شرف إبراهيم من يدعونه ممن هم حولهم، بل إن الناس آنذاك، وبعضهم في الصحاري حتى الآن، لم يكونوا ينتظرون أن يأتيهم من يدعوهم لوليمة، وإنما يلتقون غالبا عند كبيرهم (مقدمهم) بين وجوههم لشرب القهوة أو السمر، وفي كل الأحوال، يحضرون عندما يستشعرون وجود ضيف غريب، ليحظوا بقطعة لحم مع ثريد وادام، أو ثريد وادام فحسب، إذا تعذر الحصول على قطعة لحم، أو إذا كان عدد الآكلين أكثر من قطع اللحم.
عندما أنجز طبخ الطعام، قدم المضيف الطعام لإبراهيم، وتقدم إلى الطعام من كان حاضرا معه.. وبينما كانوا يتناولون الطعام، لاحظ إبراهيم أن حسقيل، خلاف أخويه، تناول مع قطعة اللحم الموجودة أمامه، قطعة لحم من جاوره على المائدة، فتبعتها يد صاحبها، ولكن حسقيل أمسك بها وأخذها من يده ووضعها في فمه بصورة أخجلت إبراهيم وأخويه، بل أحزنتهم أمام مضيفهم ومن حضر المائدة معهم، ورغم أن المضيف وإبراهيم، والمدعوين، ضحكوا عندما علق صاحب قطعة اللحم على ذلك بقوله: حقك علي، يا ولدي، يبدو أن طريقكم طويل، وأن البطن كافرة عندما تجوع.. فقد تمنى إبراهيم أن تنشق الأرض وتبتلعه في تلك اللحظة، على أن يكون أمام ذلك المنظر المخزي، بل حتى يوسف خجل من تصرف حسقيل، رغم فارق العمر بينهما.. ومن يومها لم يعد إبراهيم يحضر حسقيل معه في وليمة يدعى لها، وصار يحضر معه يوسف ومحمود فقط.
كان الطقس والهواء والمرعى في الشام من الجودة بحيث أغرى ابراهيم على البقاء هناك، فاستقر في بلاد الشام الى حين، مرتحلا ومتنقلا من مكان الى آخر. وسمنت وتكاثرت اغنامه وإبله، وأتيح امامه ان يعيش في حال مميز قياسا بأقرانه، وكان الخبز والتين المجفف والزبيب وزيت الزيتون، والزيتون المنقوع بالزيت، أهم مؤونة البيت، وكانت حليمة سعيدة، بما أسعد زوجها ابراهيم، ولكنها بقيت هي والأولاد في شوق الى ديارهم القديمة، حيث يشتون في الشامية، على أرض الجزيرة غرب الفرات من جهة الفرات الأوسط، ويصيفون على الكتف الأيمن لنهر الفرات.
كبر الأولاد حتى صار حسقيل في حوالي العشرين عاما من عمره، يتدرج بعده في العمر يوسف ومحمود، كل على أساس عمر معلوم بفارق اقل من سنتين بين واحد وآخر.. وكلما كبروا ازدادت مشاكل حسقيل، وازداد طمعه وعدوانيته على الآخرين، وطمعه في مالهم، وازداد اخواه، ابنا عميه، يوسف ومحمود ثقلا، وعقلا، وتسامحا، وشهامة، وكرما. وفي الوقت الذي كان يوسف ومحمود يحظيان باحترام وتقدير من يعرفهما ويخالطهما، كان الناس يبتعدون عن حسقيل، ويزدادون نفورا منه، بل صار من يقترب منه ويصيبه أذاه يمقته ويكرهه، ورغم ان ابراهيم صار محط انظار اهل الشام ممن عرفوه والتقوه، وصار من يسعى ليتزود بالحكمة ينهل من دروسه باختلاطه به أو استشارته، فقد حاول ابراهيم عبثا ان يصلح حسقيل ابن ابنه.. لكنه كان، في كل يوم يمر، ينتظر شكوى من احدهم ضد حسقيل، وحتى عندما كانوا يلعبون على ظهور الخيل في مناسبة ما، كان الشباب يختارون يوسف ومحمود، رغم انهما اصغر عمرا، ويتجنبون حسقيل، وعندما كان حسقيل يلتمس مطاردة احدهم على ظهر فرسه، أو حصانه، كان من يلتمسه يعتذر له بشتى الأعذار، لكنه من جهة أخرى يذهب إلى يوسف أو محمود يرجو منه مطاردته.. وعندما يحصل أن يخطئ أحدهم التقدير، ويقبل بمطاردة حسقيل، فغالبا ما تنتهي علاقته مع من يلاعبه على ظهور الخيل الى شجار يسيل فيه دمه أو دم صاحبه، واذا سال دم حسقيل، من غير ان يموت طبعا، عفا ابراهيم عمن يفعل ذلك، لأنه يعرف الخواص السيئة لحسقيل، وإن سال دم آخر، دفع ابراهيم دية عن تصرف حسقيل، وفق ما كانت تقتضي الاعراف، خاصة ان ابراهيم كان يعيش اساسا خارج مسقط رأسه، حيث أهله واعمامه. وكان حسقيل يعمد الى ان يحمل معه حبلا بطرفه انشوطة بصورة سرية، فإذا طارده أحدهم، رمى بالحبل على رقبة فرس ذاك الخيال، ثم يسحبه لتنعقد الانشوطة عليها، فتقع الفرس والخيال على الارض، أو ان يضرب فرس نظيره بعصا أو ان يضرب قرينه خلاف العادة بعصا غليظة حتى يدميه.. الخ. وادرك ابراهيم ان حسقيل، اذا بقي في بيته، سيشكل عداوات مع الناس كلهم، قد تنعكس عليه سلبا، رغم كل تقدير الناس له، ولكنه كان في حيرة من أمره.. كان يتداول مع زوجته حليمة في أمر حسقيل، ورغم ان حليمة تعرف طباع حسقيل السيئة، فقد كانت تصبر ابراهيم بالقول:
قد تذهب منه طباعه السيئة عندما يكبر.

وعندما يذكرها ابراهيم بأن عمره صار عشرين عاما، وانه أكبر من ابراهيم عندما تزوجها.. تقول، بعد أن ترجوه ليصبر عليه:
ربما يصير أفضل عندما يتزوج.
وتعود لتقول مع نفسها بصوت مسموع، بعد أن يسكت ابراهيم على مضض:
ترى من يقبل به؟ ومن يزوجه ابنته، بعد ان شاع صيته بالسوء؟
وبعد سكوت وتأمل طويلين، يتجه ابراهيم الى ربه بالدعاء:
اللهم اشفه من حال السوء، وخلصني من عبء ما يفعل، انك خير من يعلم السرائر، وتعرف الخير من السيئ، وأنك القدير العزيز.
في إحدى الليالي الربيعية، وبعد ان تناولوا طعام العشاء، سأل حسقيل أباه (جده) إبراهيم:
* هل الثروة الآن أكبر لدى الدول والناس، أم قبل الآن، يا والدي؟
إنها الآن أكبر.. لأن عدد الناس الآن صار أكثر مما كانوا عليه قبل مائة عام مثلا، ولأنهم الآن أكثر فإن حجم عملهم أكبر، ولأن العمل اساس الثروة، فإن الثروة الآن أكبر ايضا.
* لماذا لا تقول ان الذهب أكثر الآن باعتباره المقياس الثابت لقيمة الثروة منذ زمن بعيد، فازداد بالتراكم؟
بل أقول إن العمل الآن أكبر.. ذلك لأن العمل، كما ونوعا، أهم من الذهب..
* كيف؟
* لو كان لديك أوقية من الذهب.. وذهبت الى السوق، ولم تجد رغيف خبز، وانت جائع، وكذا عيالك، وتكرر الحال عدة ايام.. الا يعني ذلك انك ستموت، انت وعيالك، ويبقى الذهب لمن يرثه!؟
نعم.. صحيح.
اذن الثروة هي العمل.. وكلما ازدادت ساعات عمل شخص على آخر، وازداد علمه أو مهارته على قرينه، ازدادت الثروة في فعله بالقياس بما عليه قرينه..
اذا كانت الثروة عملا فقط.. لماذا يطمع من يطمع بثروة الآخرين!؟
ثم اردف حسقيل:
* ألم تقل لي، يا أبتي، انني اطمع في ما يملكه الآخرون؟.. فهل اطمع في عملهم.. أم في مالهم؟ ولكنه اجاب بنفسه:
انني اطمع في مالهم، وليس في عملهم.. اطمع في اغنامهم، وفي محصولهم الزراعي، وفي الخيول والجمال والبقر الذي يملكون.
أنا لم أقل إن الثروة عمل فقط.. وإنما قلت إن الثروة عمل، جوابا على ما قلته وتصورته حكما قاطعا من أن الثروة ذهب فحسب.. انك لا تطمع في ملكية الآخرين فحسب، يا حسقيل، وإنما في عملهم أيضا، عندما لا تدفع لهم ثمن عملهم، أو تدفعه منقوصا، أما لو أردنا الاسترسال، وان نولد من كل عنصر من العناصر الأساسية في تكوين الناس والتأثير بها، لما توقفنا عند العمل كمصدر وحيد للثروة، ولكنه المصدر الأساس فيها وفي تعريفها.. ولو نقلنا ثقل الناس والدول في الميزان، من صلتهم بالثروة تحديدا، إلى صلتهم بالقيمة، فعندها نكون أمام عنوان اشمل، يحوي ما هو مادي وما هو معنوي، وعند ذلك تدخل جغرافية الدول ضمن قيمتها وتاريخها، وما هو في باطن ارضها أو عليها.. وما تركته فيها ولها الاجيال السابقة، ومستوى استعداد شعبها للصبر في الملمات والمحن، ومستوى اعداد واستعداد الناس فيها، بوجه عام، يتقدمهم الرجال، للتضحية الخ.. ولكن اساس الثروة عمل في كل الاحوال.. وهي الآن أكبر، سواء على اساس ما تحوزه الدول أو يحوزه الافراد.. والعمل ايضا مقياس مهم لمستوى صلة الانسان المؤمن بالحياة، وبرب السماوات والارض، لأن الله سبحانه خلق الحياة للانسان، وخلقه ليعمل فيها.. لذلك فإن من يعبد الله، ولا يعمل كما ينبغي او يجب، لا بد ان يكون خلل ما في عبادته، ولا نعرف الى اي حد يقبلها الله أو ينقصها.. خاصة اذا قارنا المؤمن بناقص الايمان.. فكلما قلت قيمة عمله.. أي قل عمله زمنا وقيمة.. عن الحال المقارن به مما ذكرنا، كان معنى ذلك ان ناقص الايمان اكثر فائدة للحياة من المؤمن ان لم يخربها.. ولأن المؤمن لا يقبل ان يكون اقل قيمة من ناقص الايمان، فعليه ان يتفوق على هذا الاخير، ليس في الاخلاق العامة، وتواصله مع رب السماوات والارض فحسب، وانما في العمل ايضا.. وان الاشارات التي اراد بها الله سبحانه ان يعمل الناس، وان يتقن كل عمله، كثيرة، بل لعل صلاة الفجر، وهي الصلاة المبكرة في يومها.. تعني ان الله اراد للمؤمن ان يكون يقظا عند كل فجر، ولأن صلاة الفجر اقصر صلاة، فمعنى ذلك انه، سبحانه، اراد يقظة الانسان للعمل اساسا، وجعل صلاة الفجر في هذا التوقيت سببا ودافعا ليكون المؤمن مستيقظا.
* ولكن. ألا يأكل الناس، ويلبسون افضل، مع ان عددهم الآن أكبر؟ فما الذي ازداد؟ هل ازداد الذهب أم العمل..؟
ان وصف الافضل وصف نسبي.. فعندما نقول ان فلانا يأكل ويلبس الآن أفضل من جده.. فإن قياس الافضل ينبغي ان لا يقاس لفلان مع جده، وإنما مع الناس في مرحلته.. وهكذا كان حال جده يقاس من قبل.. وعلى هذا، فإن كثيرا من الناس يعيشون الآن من دون حد الفقر على مستوى العالم ككل، ومن هذه النسبة أناس من الدول التي تعتبر، أو يعتبرها أهلها أو المسؤولون فيها، من أكثر الدول ثروة.. مثلما كان أناس يعيشون في السابق، على قياس معيار الفقر والغنى آنذاك، من دون حد الفقر.. ومع ذلك اقول جوابا على تساؤلك: نعم، إن الثروة، ومنها الذهب في الدول وفي حوزة الناس، أكبر الآن مما كانت في الماضي، وإن العمل الآن أكبر حجما وأرقى نوعا.
* ولكن، كيف اصبح الذهب أكبر حجما الآن؟
انه اكبر حجما، لأن عدد العاملين على استخراجه صار أكبر بالقياس النسبي.. وان وسائل استخراجه الآن افضل طبقا لقياسات التطور، فكلما تحسنت وسائل استخراجه، وصارت فعالة بصورة افضل، ازداد حجم المستخرج منه. يضاف الى ذلك ان عامل التراكم بسبب الزمن الطويل جعل حجمه أكبر، ولعل المرأة قد لعبت دورا اساسيا في تراكمه لدى الافراد والعوائل، ولولاها لكنا أمام حجم أقل بكثير مما عليه الذهب الآن لدى العوائل لأن الرجال لا يكنزون أو يستخدمون الذهب، في الغالب.
* الا يعني هذا، يا والدي، ان اثم المرأة أكبر من اثم الرجل، وفق مفهوم ديانتك، لأنها تكتنز الذهب، ولا يكتنزه الرجل؟
احسنت يا ولدي.. نعم ان من يكتنزه ولا يزكيه يقع عليه اثم كبير. عاد حسقيل ليقول:
* ولكن ما أدرانا، قد تكون حصة الفرد من الذهب الآن اقل، لو وزعنا الموجود منه بالتساوي على الكل، ذلك لأن عدد الناس الآن أكبر، بينما كان عددهم في الزمن القديم اقل.. وكان الذهب ظاهرا في أماكنه أيضا، وفي مجاري الأنهار، أو حيثما كان هنالك مسيل لماء المطر في أرضه في قديم الزمان مما يسهل تصفيته وجمعه..
أجاب إبراهيم على تساؤل حسقيل:
لا أستطيع أن أقول لك شيئا قاطعا في هذا، لأنني لا أمتلك أرقاما.. ولا أريد هنا أن اعتمد على الاستنتاج في الإجابة.

>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

>>>> الرد الأول :
أخرج منها يا ملعون

العرب لا يبحثون عن الألوان المختلطة بل عن الألوان الأساسية بعد الأبيض والأسود

الجزء الثاني (2)


رواية لكاتبها: صدام حسين


تحكي الحلقة الاولى من رواية «اخرج منها يا ملعون» علاقة الشيخ ابراهيم مع ايتام اولاده الثلاثة، الذين قتل آباؤهم في غزوات ومنازعات قبلية. وتسلط الاضواء على شخصية كل منهم وهم: حسقيل ويوسف ومحمود.
في هذه الحلقة تتابع الرواية شرح مواقف كل من الثلاثة من مفهوم الثروة.

كان إبراهيم وأولاده (أحفاده) يتحدثون عن الماضي البعيد، ورغم ان هناك الكثير من الثوابت، أو ما يشبه اي لثوابت في الحياة، مما لا يجعل وزنها وتأثيرها يتغيران تغيرا جوهريا بصورة لافتة للنظر، الا ان الاشياء تبقى غير الثوابت أو شبه الثوابت في المعاني والاعتبارات مما يحكم سلوك الانسان ومعتقداته فتكون له أو عليه، ومع ذلك بإمكاننا ان نقول ان مظهر الناس، لو استحضرنا صورة الماضي، وبساطة وسائل الناس فيه، ينبئنا بأن الثروة كانت أقل آنذاك.. وكذا الذهب، وان دور الذهب في الثروة كان حاسما ومرجحا لقيمتها المادية أكثر مما هو الآن.. ذلك لأن عناصر الثروة الأخرى من غير الذهب.. مما يكون قيمة ما توزن عليه الثروة آنذاك، غير ما هي عليه الآن..

إذن المثل الذي قاله ابراهيم لابنائه، ومنهم حسقيل، في موضوع أوقية الذهب ورغيف الخبز حاسم في الاجابة عن تساؤلات من يتساءل عن دور الذهب وعلاقته بالثروة .. بل وكثير من عناصر الثروة الأخرى، وما يوزن عليه ثقلها وقيمتها.. فما قيمة أي ثروة، حتى لو كانت أكواما وأكواما من الذهب، اذا لم تدم الحياة؟ وما قيمة الثروة. سواء بقياسات الزمن القديم الذي تحدث عنه ابراهيم، أو حتى بقياسات هذا الزمن، إن لم تعز أهلها، وتكن في خدمة المعاني العالية، وبما يسهل مهمة انتشارها معاكسة للمعاني الواطئة أو المخربة؟ ألا تكون الثروة عبئا، إن لم تكن على اساس هذه القياسات ومعانيها؟ وماذا يعني من يملكها، حتى لو كان ثوبه وعقاله من ذهب، غير منظر قابل أن يمرغه اي من الفقراء بالوحل، عندما يتكل على الله؟ وهل سيكون منظره الا مضحكا؟ ولو مرغ احد الحفاة قدميه في وحل لأي سبب، لن يكون منظره مضحكا بالضرورة، لكن من يلبس الذهب، ويفكر في الذهب، ويعتقد ان اساس وزنه وتأثيره في الحياة هو الذهب فحسب، ينشأ ضعيف التأثير، ضعيف الارادة. ضعيف البنية والصبر والتحمل، لذلك ما ان يمرغه احد في وحل أو يهوى عليه بقبضته أو يواجهه بإرادته حتى يغدو ذلك في حالة مضحكة، وبإمكان من له هواجس عكس ما نقول ان يتمعن بمن هم في وطننا العربي الكبير الآن، ومن هم جزء غير حي في أمتنا.. بل بإمكان أي واحد من الناس ان ينظر الى نماذجها ابتداء من الحي الذي يعيش فيه في مدينة، الى قرية في الريف، أو الريف الذي عاش فيه سابقا، أو حاليا.. ان الله خلق عناصر الثروة للانسان، أو ما يمكن خلقه منها، بعد ذلك بجهد اصحابها لتعز الانسان، لا لتذله، ولتقويه، لا لتضعفه.. وانها لكي تعزه وتقويه يجب ان يكون جمعها حلالا منزها، وأن تكون في خدمة المعاني العالية وما يرضي الله.. لا ان تكون في خدمة الشيطان والانانية والاثرة المقيتتين.. واذا ما جمعت الثروة ووضعت في خدمة هذه المعاني، وكل ما يرضي الله، وأغلبية الناس الخيرين، كانت كأنها جوالة بذاتها، ومحمية بذاتها.. تتحرك من مكان الى مكان، وتظهر أو تحتجب وفق ما يحميها وينميها، ولا تكون عبئا على اصحابها لو جاءت من مصادر مشروعة.. ولا ثقلا وهما عليهم في الليل والنهار، ان قاموا، وان قعدوا، إن ناموا أو استيقظوا ومدخلا ووسيلة ذل وضعف وما يخزي أهلها بدلا من ان يقويهم ويعزهم.. ذلك لأنها تكون مطاردة من الفقراء، بعد ان يشيح الله بوجهه عن أهلها..


عندما كان ابراهيم يتحدث عن الثروة والذهب ودوره ووزنه في الحياة.. يسأله حسقيل:
* هل ان امتلاك الذهب من الرجال واكتنازهم له يجعلهم في نظر الناس كالنساء يا والدي؟
لا، لن يكونوا على هذا الوصف بالضرورة، إلا عندما يتخلون عن دور وصفات جنسهم.. ولكن لماذا تسأل عن هذا، يا حسقيل؟
أقول لك يا ابتي: والله، ما ان يذكر احدهم الذهب، حتى يطير له فؤادي، بل أكاد لا أهتم بأي نوع من أنواع عناصر الثروة التي ذكرت أو أي شيء آخر.. الا عندما يكون بإمكاني ان أحولها الى ذهب.. وقد تولدت هذه الافكار لدي، وتكون بنائي عليها منذ ان ذهبت مع والدتي الى سوق مدينة بابل ورأيت الصاغة هناك، ورأيت دكاكينهم مليئة بالذهب، ورأيت النساء الحسان يتعاملن معهم، ورأيتهم يضعون الحلي على جيد هذه أو تلك، لتنظر في المرآة الى نفسها لتقرر شراء ما يعجبها، ولم أر الا قليلا من الرجال يرصعون مقابض سيوفهم بالأحجار الكريمة، أو يغلفون (اقربة) سيوفهم بها.. ولو لم اتحسب لغضبك لذهبت الى هناك.. لأتعلم مهنة الصياغة.. وأريد ان اسألك، يا جدي ولأول مرة قالها حسقيل بعد ان كان يخاطب جده بالقول (يا ابتي) كأنه أراد ان يشعر جده بصورة غير مباشرة بأنه اصبح رجلا وصار من حقه ان يقرر
* الم تقل، يا جدي، ان اساس الثروة وجوهرها عمل؟ وانا اقول ان اساس الثروة وجوهرها ذهب.. ولكي لا اتقاطع مع قولك وفي الوقت نفسه اقترب من معبودي الذهب، قل لي، يا جدي، لماذا لا نضع رمزا تشبيهيا لإلهنا، فنجعله من ذهب، ونعبده؟ وبذلك نكتنز الذهب. ونجمع برمزه قوة الدنيا ومعاني العبادة؟
عندها نهره جده..
أتقول معبودي، يا ولد؟ وتريد ان تنزل الذهب الذي استعبدك بمنزلة الله؟ وان تحول الله العظيم الى صنم، لتحقق بواسطته رغباتك، يا خاسئ؟ وحمل عليه بالعصا ليضربه..
امسك حسقيل بالعصا من يد جده وهو يضحك ويقول له:
صبرك علي، يا جدي.. ربما لم احسن القول نظرا لحماستي للذهب وحبي له، ولكن، والله يا جدي، ما ان يذكر الذهب حتى يطير له صوابي، لكن لولا حبي لله لما سخيت على نموذجه بالذهب.. ألا ينبئك سخائي هذا بمستوى ونوع محبتي لله..
قال حسقيل ذلك هو (يتمزمز) كأنه يكبت ضحكة في داخله.. لأنه يعرف أن ما أراده ليس توقير الرمز، وانما اكتناز الذهب فيه.. ثم استدار بجلسته نحو محمود ويوسف قائلا لهما:
لو وافق جدي على هذا، مع معرفتي انه لا يؤمن به. لجمعت ثروة كبيرة بأسرع وقت.. أتعلمان كيف افعل ذلك؟ كنت سأدعو كل أهل بلاد الشام والعراق، مستخدما سمعة جدي ودينه، لأطلب من كل قادر مساهمة في هذا التمثال الرمزي.. وعندها يقول حسقيل سيكون لدينا تمثال كبير من ذهب وكان من يسمعه يقول (تمثال من ذهب) يكاد يسمع صوت بلعومه، ويلاحظ انه يدور لسانه على شفتيه كأنه يتحسس عسلا بطرف لسانه وسأجمع من خلال الطواف به ثروة، في الوقت الذي تكون ملكيته لي، لكنني مستعد لاعطيكما شيئا منه.
ولكن ابني عميه يرفضان، فيقول لهما هازئا:
أبقيا على دينكما، وسأكون على ديني..
ثم يعود حسقيل ليقول موجها الكلام الى جده:
أليس من الافضل ان يعمل الانسان بالذهب، بدلا من مباراة أو رعي اغنام وإبل وأبقار مما نفعل الان أنا وابنا عمي؟ ولأول مرة يقول (انا وابنا عمي) بدلا من (اخوي) التي كان يقولها في السابق، وفق ما أراد جدهم ابراهيم ان يعودهم عليه، وكأنه قرر ايضا ان يفصل نفسه عن البيت وابني عميه بقوله لهما (ابنا عمي) بدلا من أخوي..
نظر ابراهيم اليه، وقال:
تصرف وفق ما ترى، لقد صرت الآن رجلا، وبإمكانك ان تقرر ما يتعلق بمصيرك، لكنني ظننتكم تعيشون اخوة في هذا البيت، وترعون ما تملكون، وتتقون الله بعد ان آمنتم به.. وها هي ثروتكم كبيرة، والأهم في ثروتكم هو سمعتنا بين الناس، وطاعة الناس لدعوتنا الى عبادة الرب الرحيم، الإله الواحد الصمد.. وتبركهم في طاعتنا، بعد الله، واليه يسلمون.
قال حسقيل:
* إذا لم ترغب في ان أفارقكم، يا جدي، فاترك لي أن أقرر نوع العمل الذي أعمله، ونوع الثروة التي أجمعها..
لك ذلك، يا ولدي..
فهم ابراهيم ان حسقيل اراد ان يكون في بيت منفصل، وأراد ايضا ان يفصل ملكية أبيه عن الملكية المشتركة، وهي عبارة عن عدد من الإبل والأبقار والأغنام.. عزلها له جده بمساعدة الرعاة، وفق قانون ايمانه.. ومن يومها صار حسقيل يعيش في نفس المكان الذي كانوا يعيشون فيه، ولكن في بيت شعر منفصل.. وبقي ابنا عميه يوسف ومحمود مع جدهم ابراهيم وجدتهم حليمة..
وفي الوقت الذي كان يوسف ومحمود يباريان الرعاة ويوجهانهم، ويحميان المواشي اذا تعرضت الى غزو، ويكرمان ضيوفهم تحت اشراف وتوجيه جدهما، كان حسقيل يتخذ اتجاهات اخرى لحياته.. فقد باع من فوره كل ما افرزه (جنبه) له جده من أغنام وخيول وابل وابقار، وحولها الى قطع من ذهب من العملات الدارجة آنذاك، وكان العراق حينئذ أول من سن ضرب العملة، بما في ذلك العملة المعدنية باعتباره اقدم حضارة وأقدم دولة.. وبعد ان حول ما يملك من ذهب، كان حسقيل يأتي الى بيت جده وهو يحتضن كيس (صرة) الذهب، ويتلمسها وهي في يده كأنه يتبارك بها، بل انه كان حتى في الصلاة يضع (الصرة) أمامه كأنه يصلي لها.. وعندما يزور ابني عميه، كان يعرض عليهما الذهب قطعة قطعة كأنه يستحثهم على ان يسلكوا طريقه.. وكان عندما يعرض قطعة الذهب يشمها. ثم يفركها بأصابعه قبل ان يسلمها الى اي من ابني عميه.. وينبههما ان لا يدعا ايا من قطع الذهب تسقط على الارض وعندما يقولان له باستغراب: وماذا يصيب قطعة الذهب، وهي معدن، لو سقطت على الارض؟.. (يتمزمز) حسقيل ويقول:
لو سقطت على الارض مرات عدة، أو فركت مرات عدة، قد تفقد شيئا من وزنها، ولذلك ترون انني اضعها في كيس قماش رقيق، بدلا من ان اضعها في كيس يحاك من شعر الماعز أو صوف الغنم، ذلك لأن شعر الماعز وصوف الغنم خشنان، ولكنني مع ذلك اخشى ان تفقد القطع من وزنها بسبب احتكاكها مع بعضها.. ولكن لم أجد وسيلة افضل من هذا..
وكان لا يستخرج قطعة ذهب أخرى من (الصرة) أو الكيس، الا بعد ان يعيد القطعة التي في ايديهما للكيس.. ولكنهما كانا باتجاه آخر، في الوقت الذي افترق عنهما ليأخذ طريقه..
كان حسقيل لا يستضيف أحدا في بيته.. متخذا من عدم وجود امرأة معه لتقوم بإعداد الطعام ذريعة ليتجنب الصرف على ضيوفه.. وإذا ما أحرجه أحد.. قاده وذهب معه الى بيت جده لتكون الضيافة هناك.
كان حسقيل ضئيل الجسم، مقوس الانف، دميم الخلقة.. تسترسل لحيته من غير اعاقة، وتلتحم بطرفي شاربيه، لكنها لم تكن كثة، وانما شعرها خفيف ومتفرق، وكان يترك فجوات بعينها في لحيته من دون شعر، وكان يرتدي سروالا على هيئة سكان الجبل، وليس ثوبا، ولا يضع شيئا على رأسه.. وعندما يقول له اخواه: لماذا لا تضع غطاء على رأسك، يا حسقيل؟ يقول لهما: لا داعي لمزيد من الصرف.. وترك حسقيل رأسه مكشوفا بعد ان انتقل من بيت جده لان الصرف آنذاك كان يجري على نفقة جده ابراهيم.. لكنه عندما استقل في بيت منفرد، استغنى عن غطاء الرأس المعتاد ضمن وسطهم واستبدله بقطعة قماش صغيرة على هيئة (طاسة) (1) صغيرة مفلطحة بالكاد تثبت بصورة غير مستقرة في اعلى سمت رأسه.. وعندما يسأل: لماذا لا تجعلها تغطي كل شعر رأسك من الاعلى؟ يقول: لا داعي للتبذير، هذا يكفي.. وصارت ملابسه الرثة المتسخة من بين اهم مظهر فيها.. وكان لا يملك في بيته الا بساطا واحدا، ووسادة واحدة، وفروة يرتديها في الشتاء ويتغطى بها عند النوم، وكان كلما اكل اكلة دسمة في بيت جده ابراهيم مسح يديه بالفروة بدلا من ان يغسلهما، وعندما يسأل: لماذا لا تغسل يديك؟.. يقول: ان مسح الدسم بجلد الفروة يجعل الجلد طريا وبذلك اطيل عمر الفروة.. اضافة لكوز ماء (مثلوم) من اكثر من مكان، وقربة ماء بالكاد تكفي شربة او شربتين لشخص واحد فقط.. وكان لا يطبخ في بيته او يستأجر من يخبز له.. ذلك لانه كان يأكل في بيت ابراهيم.. وربما كان هذا واحدا من اهم الاسباب التي جعلته يسكن قرب بيت ابراهيم، بالاضافة الى ان منزله قرب بيت ابراهيم يجعله يتمتع بالحماية التي يوفرها من يعيش على خير ابراهيم وما كان يحظى به من احترام وتقدير وهيبة ومحبة بين الناس، مما جعل حسقيل يطمئن على ما بمكله من ذهب، ومع ذلك كان لا ينام الا بعد ان يشد كيس الذهب على بطنه، في الوقت الذي ينتقل معه.. حتى الى بيت جده.. بل إن بيت جده كان المكان الوحيد الذي يذهب اليه بعد ان يترك بيته.
اتجه حسقيل الى الحدادة في بادئ الامر، ذلك لان هذه الحرفة لم تكن من الحرف التي تستهوي العرب، ولذلك لم يكن منهم من ينافسه عليها، ولذلك ايضا بدأ بها، وكان اول عمل بدأ به هو انه صار يحذو الخيل، وكان كلما علم بوجود ميدان بذاته لسباق الخيل قد اتفق عليه مسبقا ليقام عليه سباق او لعبة فرسان سلمية فوق ظهور الخيل في مناسبة بعينها، ذهب بنفسه، او استعان بمن يستكريهم ليجمعوا له حصى صغيرة او يجزئوا الحصى الكبيرة نسبيا الى اجزاء صغيرة، بعضها حاد كشفرة، وذلك بضرب الحصا ببعضه.. وعندما يتجمع له منه ما يقرره، يذهب خلسة الى الميدان، لينثره في التربة هناك، بحيث تؤذي حوافر الخيل عندما تتسابق او يلعب فوقها الفرسان بالمطاردة (بالطراد) الى الحد الذي يضطر اصحابها ليستعينوا به ليحذوها.. ولانه الوحيد في منطقته، فقد كان يفرض اجره (بالعالي) وغالبا ما كان يجعل حذوة الحصان او الفرس غير ثابتة بما يكفي، بحيث يضطر اصحاب الخيول الى الاتيان بخيولهم اليه، ليعيدوا حذوها، او بفواصل زمنية قصيرة، وبذلك يزداد الطلب عليه، ويزداد اسغلاله وتكبر ثروته.
وبعد ان تحسنت اوضاعه اتجه الى صناعة السيوف والخناجر، ثم من بعدها الى صياغة الحلي.. وعندما صار يصنع السيوف والخناجر، كان يعمد الى اثارة فتن بين القبائل، ليضرب قبيلة بقبيلة، فتتجه على هذا الاساس الى شراء وحيازة المزيد من الرماح والقضبان والسهام والنبال والسيوف والخناجر والدروع والتروس.. وبعد ان وسع حسقيل قدراته في الانتاج، صار يشغل بالاجرة اعدادا من الناس، لكنه كان يعلم كلا منهم جانبا من الحرفة، بحيث لا يستطيع اي منهم ان يعمل شيئا كاملا منها من غير ان يستعين بحسقيل.. وبينما كان حسقيل ينظم شبكة من الاجراء لبث الشائعات والفتن، واغراء من يغرونه على قول شعر هجاء بحق هذا او ذاك من وجوه قوم آخرين لتنشب النزاعات والقتال ليستفيد حسقيل، كان كل من محمود ويوسف يتتلمذ على يدي جدهما في تعلم الحكمة، ورسوخ الايمان في نفسيهما وعقليهما، وكانت طاعة جدهما في كل ما يأمرهما ويكلفهما به هي المدخل الاساس وعنوان شخصيتيهما الى الايمان العظيم بالله الواحد الاحد.. وكانا يتعاملان مع جدتهما حليمة بنفس روح التقدير والاحترام والطاعة لجدهما، ولكن على وفق درجتها واستحقاقها.. وكانت محبة الناس لهما تزداد وتتسع.. وكلما جاء من يريد ان يستشير جدهما في امر ديني، أو شأن حياتي يقتضي حله الحكمة، ويقدر جدهما ان ايا منهما على وجه التحديد قادر على حله، كان يحيل اليه من يتوجه اليه بسؤال او استفسار او يستعين به بنصيحة لحل معضلة، وهكذا كان جدهما، كأنه اراد ان يدربهما على كل شيء يعرفه، ليتوليا حفظ الرسالة وابلاغها الى من يستعين بهما ويتبعهما بعد وفاته، وكان اي منهما كلما وجه، او افتى، او نصح بشيء عاد الى جده ليشرح له اجتهاده فيقره عليه او يصحح له وفق ما يستوجب.
في احدى السنوات، وبعد ان صار حسقيل يصنع الحلي من الذهب والفضة.. كان الوقت وقت ربيع.. ومن عادة اهل البادية في ذلك الزمن، مثلما هم حتى يومنا هذا، رغم ما يحظون به من استقرار في الوطن العربي كله، انهم كانوا يرحلون من مكان الى آخر طلبا للماء والكلأ.. وبخاصة في فصل الربيع.. وحصل ان انتقل ابراهيم، ومعه حليمة وحفيداه محمود ويوسف.. وكان حسقيل يتبعهم وينزل قربهم.. وظلوا يرحلون من مكان الى آخر، حتى حطوا رحالهم في منطقة قبيلة كبيرة، كان شيخها رجلا كريما وحكيما وشجاعا وصاروا منذ ذلك اليوم يرحلون وينزلون معه، ولكنهم لا يحطون رحالهم إلا بعد ان يركز شيخ القبيلة رمحه في مكان بعينه، وكعلامة على مكان ومكانة منزل ابراهيم كان شيخ القبيلة يبني منزله على مسافة قريبة منه.. ليضمن له الحماية وحرية الجهر بافكاره والدعوة الى ما يؤمن به كرسالة التوحيد وعبادة الله الواحد الاحد.
وفي أواخر ايام ربيع احدى السنوات التي قضاها ابراهيم في بلاد الشام متنقلا بين الفرات شرقا وبلاد الشام وبحرها غربا، وباقي اراضي شبه جزيرة العرب جنوبا.. صادف ان رحل ابراهيم مع تلك القبيلة التي تآخى مع شيخها. وبينما راح ابراهيم يستطلع المكان الذي عينه لمنزله شيخ القبيلة، وجد انه ركز رمحه في (قرية نمل).. وهذا يعني بعرف القبائل انه غير مرغوب فيه.. وقد لفت زوبعة أسى ابراهيم، ذلك لانه كان يعرف ان صاحبه شيخ القبيلة لا يطلق الأحكام على عواهنها كما يقول المثل، ولانه لم يفعل هو او زوجته ما يسيء الى شيخ القبيلة، ولا الى اي احد من افرادها ولم يفعل هذا اي من ابنائه بصورة معروفة، بمن فيهم حسقيل، فلا بد ان يكون احد ابنائه (احفاده) قد عملها بصورة سرية.. ومن يكون غير المرأة والعلاقة معها مما يفعله شاب تزل قدمه عن موضعها او يخالط عفته عفن؟ ورغم انه خمن ان يكون حسقيل هو الذي اقترف هذه الفعلة، فقد اراد ان يعرف بصورة غير مباشرة، ولان من عادة كبير العائلة ان يتقدم الضعن قبل وصوله المكان المقرر، فقد عاد ابراهيم أدراجه ليلتقي بعائلته المضعنة، وعندما رأى ابناؤه وزوجته جدتهم ان ابراهيم عاد اليهم بخلاف ما اعتادوا عليه، توقفوا واجتمعوا اليه يسألونه:
خير، يا والدي؟
وقالت حليمة:
خير ان شاء الله يا ابراهيم؟
ولكن حسقيل قال:
ماذا حصل، يا جدي؟
اجاب ابراهيم:
إن شاء الله خير، يا رب.. لقد فكرت في ان نغير اتجاهنا ونعود ادراجنا وفي مكان ما في منتصف الطريق، نقيم ريثما نقرر اتجاهنا الجديد، وقد نعود الى حافة نهر الفرات في وسطه حيث العراق واهلنا هناك، او نتجه الى الحجاز.
حاول حسقيل ان يخالف توجيه جده، لكن الاشارات التي فهمها من محمود ويوسف لم تنبئ بان باستطاعته ان يقرر منفردا برأيه خلافا لما يريده ابراهيم.. ذلك لان الجميع فهموا ان ابراهيم ما كان ينفصل عن قبيلة صاحبه وحيث نزلوا الا لامر جلل.. لم يفهم حسقيل ذلك، او انه اراد ان لا يفهم، جريا خلف ما درت عليه مهنته في كنف تلك القبيلة الكبيرة، وانجرارا خلف ما صار عليه طمعه، بعد ان بنوا بيوت الشعر بما في ذلك البيت المخصص لحسقيل وبيوت الرعاة.
استدعى ابراهيم اولاد ابنائه الثلاثة.. وانفرد بهم واحدا واحدا، مبتدئا بالصغير، محمود، وقال له:
ان ل (خوينا) مصعب اي اخينا شيخ القبيلة بنتا حلوة تغري كل رجل.. هل دنوت منها؟ ألم تستطع ان تغريها، يا ولدي؟ انها جميلة وتستحقك.. وانت تستحقها اكثر من غيرك..
جفل محمود واحمرت عيناه.. بل كادت تخرجان من محجريهما.. وكاد يسحب سيفه من جنبه، بعد ان نسي من شدة ما غشيه من غضب، ان من يخاطبه هو جده ابراهيم.. وعندها قال لابراهيم:
يا للعار، لو فعلنا سوءا كهذا! كيف تقول هذا، يا والدي، وابو البنت (خويك) وقد انزلنا في كنفه، وضمن لنا حرية التبشير بآرائنا، وحمانا؟ والله، يا والدي لو لم تكن ابي، ولو خمنت انك مستقر على رأيك هذا، لكنت اتخذت موقفا لا ارضاه لنفسي ولا ترضاه عني، ولفارقتك من يومنا هذا، وربنا الغفور الرحيم.
قال ابراهيم:
(عفية)، يا ولدي.. اكتمها عن اخويك.. وإذا سألاك بعد خروجك افتعل لهما اي شيء ولا تقل ما قتله لك.
وعده محمود بذلك، وهدأ روعه، ثم خرج، ودخل يوسف وكان موقفه وجوابه كموقف محمود وجوابه لابيه، الذي قال له ما قاله لمحمود.. بعدها جاء دور حسقيل.. وقبل ان يدخل، كان ابراهيم يداور الأمر مع نفسه: اتراه فعل الفعلة المخزية، هذا اللعين حسقيل؟ اتراه هو الذي سود وجوهنا وموقفنا امام ابن الحلال، (خوينا) شيخ القبيلة مصعب!؟
ثم يعود ليقول في نفسه: ان أمه عفيفة وابنة رجل شريف وان اباه ابني، وانا واثق من امه.. وواثق من نفسي، ومن طهارة حليمة.. ولكن من اين جاءه هذا العرق النجس؟ ربما جاءه من اي من اخواله.. وربما من اي من اعمامنا.. وعندما قال الجملة الاخيرة، بدا كأنه يقولها من غير قناعة مستقرة.. ولكن هل يمكن ان يتصور شيخ القبيلة خطأ ينسبه الينا متوهما؟ ثم يعود ليقول: انه رجل حصيف بل حكيم حقا، ويعرف حقوق الله عليه، وحقوق الناس، ويعرف واجباته ازاء ربه، وازاء الناس.. وهو رجل يكن لي تقديرا ومحبة خاصين، ولا يمكن ان يلقي التهم جزافا، او يفرط بي من غير ان يكون مضطرا لذلك.. فلأدع هذا الملعون، وسيكون كل شيء واضحا ومفهوما بعد ذلك.
استدعى ابراهيم حسقيل، عندما لم يجد في تصرف اي من محمود او يوسف ما يعيب وكرر عليه ما قاله لهما.. وقد ظن حسقيل انه امر يدل على كفاءة خاصة، ان هو افضى لجده بحقيقة ما فعله.
قال حسقيل:
اتعرف، يا جدي، لماذا عاكستكم في الرغبة، عندما عدت من مرافقة والدها، وابلغتنا بأن نغير اتجاهنا ونعود ادراجنا الى حيث نحن الآن!؟
قال ابراهيم:
لا اعرف، ولا استطيع ان اخمن.
قال حسقيل:
كانت بنت مضيفنا ذاك تمر علي، لتعرف ماذا لدي من حلي، وعندما ارادت يوما ان تعرف ما اذا كانت احدى القلادات على قياسها ام لا، امسكت بها من ثديها، لكنها جفلت مني، في الوقت الذي كانت خادمتها خارج البيت، وقد لحقتها وامسكت بها قبل ان تخرج من بيت الشعر، ووضعت كف يدي اليسرى على فمها، وطوقتها بيدي اليمنى، وسحبتها الى الركن البعيد في البيت وهممت بها، وكدت ان افعلها، لانني اعرف انها يتعذر عليها ان تصرخ وتستنجد خشية ان يلحقها عار الفضيحة، لكنها امهلتني لليوم التالي، وحلفت انها ستفي بوعدها، ورغم ان هذا ليس هو الذي منعني منها، وانما صوت خادمتها وهي تصيح باسمها، وتستعجلها لتعودا للبيت، فإني قبلت من جانبي تأجيل ما كنت انوي فعله، بأمل ان افعله معها اليوم، ولكن اليوم كان يوم رحيلنا ولذلك كنت اعاكسكم في الاتجاه. وفي نيتي ان الحق بها الى هناك، لاحصل على بغيتي.
عندما كان حسقيل يسرد قصته مع ابنة مضيفهم، شيخ القبيلة كانت الارض كأنها تميد بابراهيم فقام من فوره وصفعه بأقوى ما يستطيع حتى ادمى انفه، وصاح بيوسف ومحمود ان يحضرا وامرهما بأن يربطا يدي حسقيل خلف ظهره، وقال بحزم:
اقتلاه، اذا قاومكما.
عرف حسقيل الامر وصرامته فاستسلم من غير مقاومة، وعندما اكمل محمود ويوسف تكتيفه، امرهما باحضار فرسه واحضار حمار ليضع فوقه الخاسئ حسقيل، وان يأتيا له بسيف وقوس، وبعد ان تقلد سيفه ووضع جعبة السهام خلف ظهره، وامسك بالقوس بيده، وهو امر لم يفعله ابراهيم منذ وقت طويل، ذلك انه لم يكن بحاجة اليه وهو حكيم الامة ومرشدها لكنه هذه المرة كان بحاجة اليه ليتدبر امر حسقيل، خشية ان يهرب منه وهما في الطريق الى شيخ القبيلة المقصود.
ما ان استوى حسقيل على ظهر الحمار، واتجه به معقبا اثر قافلة الشيخ الجليل، حتى امتطى ابراهيم فرسه، وصار خلف الحمار ليلكزه بعصاه عندما (يحرن)، ليستمر في سيره. وما ان لاحت مواقع بيوت شيخ القبيلة من بعيد، تحيط بها بيوت الشعر لعشيرته، حتى لاحظ ابراهيم ان احدهم خرج من البيوت على ظهر فرسه.. التي جاءت (تهذب) باتجاهه.
عرف ابراهيم الفرس من لونها الاشهب، وعرف من وضعية فارسها انه صاحبه لا محالة، وخمن ان هناك من قال له "انني جئت معقبا اثرهم هكذا قال ابراهيم في نفسه وان معي احدهم فوق ظهر الحمار، وانني اهتديت الى السبب الذي جعله يرحل هذا اليوم، ويفصل منزلنا عنهم، عندما وضع رمحه في عين (قرية) نمل، بمعنى انعدام الرغبة في المجاورة، وان الشيخ جاء خارج منزل القبيلة لكي لا تعرف شيئا عن وصول ابراهيم الى مضيف الشيخ، لانها عندما تعرف يتعقد الامر على الشيخ، وتكون المرونة لديه محدودة خارج ما اعتادت عليه هذه القبيلة وكل قبائل العرب، وهو القتل لمن يتحرش بامرأة بخلاف رضاها، وقتل المرأة والرجل اذا كان برضاها".
عندما وصل شيخ القبيلة وصار على مقربة من ابراهيم، قفز من على ظهر فرسه الى الارض، مما جعل ابراهيم ينزل عن ظهر فرسه ايضا، وبدلا من ان يسلم على ابراهيم باليد، او يقول اي شيء احتضنه من فوره، وصار يقبله على وجهه وجبينه ورقبته، وهو ينتحب ويقول: (عفية اخوي) انت قدوتنا في الحكمة، وقد تأكدت اليوم بصورة اعمق انك قدوتنا في احقاق الحق ايضا، بعد ان كنت تدعونا اليه وترشدنا لان نحكم ونؤسس علاقتنا عليه.. لقد عرفت انك ستهتدي الى السبب الذي جعلني انفصل عنك، وعرفت بيقين انك سترضيني وتنصفني، لانني متيقن من انك تعمل لارضاء الله.. وبعد ان صار كل العرب يسيرون على سنتك ومنهجك، فانك في الوقت الذي تتمسك بحقك على الناس، من حق الناس ان يتمسكوا بحقهم عليك، ولقد تصرفت وفق ما رأيت لانني واثق من انك افضل من يأخذ لي حقي بالعدل، ويبيض وجهي، ولكن ارجوك، يا اخي وقدوتي، بل قدوتنا جميعا، دعنا نعالج الموضوع هنا أنا وأنت فقط، وان لا نذهب الى هناك، حيث تجمع القبيلة، لنكتم عنها ما حصل..
قال له ابراهيم:
لقد عرفت كل شيء، وجئتك بهذا الخاسئ حيا لتقتله بنفسك وبسيفي هذا.

واستل ابراهيم سيفه من قرابه، وناوله الى شيخ القبيلة وبعد ان هزه شيخ القبيلة بيده عدة مرات وهو يحدق في الخاسئ حسقيل، قال موجها الكلام لابراهيم:
لقد وصلني حقي، يا اخي، وقدوتي، وانني افك رقبته، ولن اقتله تاركا معاقبته لربك، يا ابراهيم، ولكن لي رجاء ان احتفظ بسيفك هذا، وان تنبذ حسقيل، انت واخواه، محمود ويوسف.. وسوف اقتله، اذا وجدته مصادفة بعد افتراقنا هذا، وله فترة سماح من يوم وليلة.
قبل ابراهيم كل شيء اراده شيخ القبيلة، وتعانق شيخ القبيلة وابراهيم، وهما ينتحبان وافترقا.
طرد ابراهيم حسقيل الخاسئ من فوره بعد ان اعطاه بعيرا واحدا ليحمل عليه بيت الشعر الصغير العائد له، وبعض اغراض العمل، مع كيس او صرة الذهب التي يمتلكها، وحذره من ان يكون في مكان قريب يجعل عينيه او عيون يوسف او محمود تقع عليه، ذلك انهم سيقتلونه ان ظفروا به، بعد فترة السماح التي أمدها يوم وليلة وسيفعل الشيء نفسه غريمه شيخ القبيلة وابناؤه، وربما قبيلته ايضا.. ولقد اشاع ابراهيم واولاده بين القبائل انهم تبرأوا من حسقيل وانفصلوا عنه بسبب اختلافهم معه في منهج الحياة والايمان وسوء اخلاقه.
عاش ابراهيم وعائلته: ام الخير وحفيداه يوسف ومحمود في استقرار بل سعادة غامرة بعد رحيل حسقيل.. ومع الزمن اتسعت وتعمقت محبة الناس لهم.. وازداد عدد المترددين عليهم طلبا للعلم والحكمة، يسألونهم في شؤون الايمان والدين او في شؤون الحياة مما يتصل بهم.
في احدى ليالي شهر تشرين الاول، حيث الخريف، وحيث تبدأ اشجار الصيف تنفض جزءا من اوراقها، ويكون العشب يابسا لتعتاش عليه المواشي، هو وما يخلفه من بذور، ومن ذلك نبتة صحراوية تسمى (الزريجة) نسبة للونها (الاملح) الذي يخالطه اللون الاخضر ممزوجا بما هو شبه (ماوي)، والعرب لا يبحثون عن الالوان المختلطة (بين بين)، في الغالب، وانما يبحثون عن الالوان الاساسية بعد الابيض والاسود، وهي الاحمر، والاصفر، والاخضر، والازرق، و(الجوزي) من لون الجوز.. وهكذا كانوا يسمون تلك النبتة: (زريجة)، بل إن الالوان التي بين الابيض والاسود لم تكن مما يهتمون به سابقا، وانما هذان اللونان فقط، اما الالوان الاخرى فقد دخلت حياة العرب متأخرة، ليتعاملوا معها، او يرتديها كلباس من يريد التخلص من حرج اللون الابيض، اذا كان رجلا، ذلك ان اللون الابيض لا يتحمل الوسخ، وهو حساس في العمل مثلما هو حساس للون الدم عندما يصاب من يصاب بجروح في الحروب، اما من يضعف (ويعملها على نفسه) في الحروب، فالافضل له ان يرتدي اللون الاسود، او الالوان الاخرى، لانه لن يقدر على حماية اللون الابيض من الاتساخ او ان يباهي به عندما يتضرج بالندى (الدم الطهور) الذي يعز اهله عندما يندى في الحق..
غالبا ما كان الرعاة يجمعون بذور نبتة (الزريجة) ويضعون عليها ملحا بعد ان يرطبوها، ويقلوها في مقلاة من غير دهن، ثم يتناولونها بمفردها او مع التمر، الذي يتزودون به من العراق على ان لا تكون البذور في هذه الحالة مملحة أو يطبخونها مع الماء، فتترك في القدر حليبا ابيض، هو عبارة عن الزيت المخزون داخل البذور، وعندما ينضج يثردون به ويأكلونه، ومن الطبيعي ان لا تكون هذه الاكلة هي الحالة السائدة في بيت ابراهيم، حيث الاغنام والابقار والابل بأعداد كبيرة.
هطلت الامطار مدرارا بعد رحيل المنبوذ، وصارت الاغنام تلد مرتين في العام الواحد.
قال محمود مخاطبا جده:
اتعرف، يا والدي، منذ ان غادرنا المنبوذ حسقيل، صارت الدنيا كأنها تمطر خيرا علينا، بعد ان واجهنا احتباس الامطار سنوات بعينها او اشهرا كثيرة من سنين بعينها.. بل حتى اغنامنا صارت تلد مرتين في السنة؟! ويجيبه ابراهيم:
نعم، يا ولدي، انه خير من الله لدنيانا، لكن خير الآخرة لمن يعملون صالحا افضل، واكثر ديمومة، حيث ضيافة الرب الرحيم.
ويجيب محمود ويوسف وأم الخير:
آمنا بالله، ولا اله الا الله والله اكبر..
ثم يقول يوسف موجها كلامه الى جده:
لاحظت ان حسقيل ازداد سوءا بعد سفرته الطويلة التي ذهب فيها الى بابل، حيث سمع قصصا كثيرة من بقايا من سباهم البابليون الى هناك، كما افضى لي، ومنهم عدد من الكهنة، قال انهم من سلالة من حجزوا كأسرى، وحرم عليهم في حينه الخروج خارج اسوار المدينة، وقال حسقيل انهم يفهمون في شؤون الدين وانهم تعلموا السحر هناك، وهم من بقايا سلالة اولئك الذين جاء بهم اسرى قائد البلاد نبوخذ نصر.. اي ان اجدادهم، وفق ما اوضح لي حسقيل، كانوا يسكنون ارضا مجاورة لارضنا هذه، هي في الاصل من اراضي بلاد الشام، كانوا قد اغتصبوها من اهلها الاصليين او انهم وسعوا ديارهم على حساب جيرانهم، حيث عندما غزاهم نبوخذ نصر ودمر معابدهم واسر دهاقنتهم، لم يهب لنصرتهم احد من المجاورين، بل ان حسقيل قال لي، وفق ما سمع منهم في مدينة بابل العظيمة، ان السكان المجاورين في بلاد الشام، رحبوا بما قام به نبوخذ نصر ضدهم.
قال ذلك يوسف، وفي نفس الوقت كأنه اراد ان يوجه سؤالا الى ابراهيم:
ولكن لماذا تصرف سكان البلاد المجاورة بعدم مبالاة ازاء احتلالهم من نبوخذ نصر؟ بل لماذا ناصروه في حقيقة الامر عليهم؟
اجابه ابراهيم:
ان اولئك القوم، مثلما اعرف عنهم، قوم انانيون، ودورهم استغلالي استئثاري ازاء من يجاورهم او يخالطهم، بل غالبا ما كان عدوانيا استحواذيا، لذلك غالبا ما كانت الشعوب التي كانت تخالطهم او تجاورهم، تكرههم او تمقتهم، فضلا عن ان شعوب بلاد الشام شعوب عربية، يا ولدي.. وان شعب بلاد بابل عربي، وعندما يكون الدم واحدا ويجري في مجرى واحد، يكون شعوره واحدا ايضا.
عاد يوسف ليقول:
كنت قبل ذلك الوقت اختلف مع حسقيل في امور كثيرة قبل سفره الى بابل، لكن بعد سفره وعودته منها، لم اجد مجالا او شيئا يمكن ان اتفق معه عليه، بل لعلي وجدته على دين آخر واجتهادات ما انزل الله بها من سلطان، وهي في كل احوالها، وفي الحال التي توصف بأقل ما يمكن من السوء، ليست الدين الذي علمتنا اياه، وصار اجتهاد حسقيل يتم بعيدا عن المنطلقات والمرتكزات التي علمتنا اياها وامرتنا بها وفقا لدينك الحنيف.. وقد لاحظت ذلك ليس اثناء حوارنا على امور بعينها، وانما لاحظته عندما كان يرشد من تحيلهم الينا لنوجههم في الايمان والحكمة، وعندما كنت اصحح له، كان ينهرني ولا يصغي لملاحظاتي، وكنت اسكت على مضض، باعتباره الاكبر سنا وقد اخطأت لانني لم افض بذلك اليك، لانني خشيت ان اخلق مشكلة بينكما، بأمل ان يرعوي ويعود الى رشده، ولكنه بدلا من أن يعود إلى رشده ارتكب جريمته القبيحة مع ابنة شيخ القبيلة، الرجل الكريم، الطيب الشجاع.
ثم يعود ليقول بعد ان يسكت برهة:
سود الله وجهه في الدنيا قبل الآخرة، بعد ان اخزانا بفعله السيئ.
ويقول الجميع ابراهيم وحليمة ومحمود:
آمين يا رب العالمين..
ثم يتساءل محمود: لقد لاحظت انني اختلف مع يوسف ايضا في اجتهادي وما افتي به في شؤون الدين والدنيا.. فهل هذا صحيح؟ ام لك وجهة نظر اخرى، يا والدي؟



* هامش:

الطاسة، آنية من النحاس لشرب الماء

__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثاني :
اخرج منها يا ملعون


العقاب سواء كان عقاب القانون أو العائلة هو خط الدفاع الأخير والحاسم

الجزء الثالث(3)


رواية لكاتبها: صدام حسين




تنطلق رواية صدام حسين «اخرج منها يا ملعون» من الكشف عن علاقة الشيخ ابراهيم مع ايتام اولاده الثلاثة، الذين قتل آباؤهم في غزوات ومنازعات قبلية، وتسلط الاضواء على شخصية كل منهم، وهم حسقيل ويوسف ومحمود.
وفي الحلقتين السابقتين، دارت حوارات بين الجد واحفاده حول مفهوم الثروة، واوضح كل منهم ما الذي يعنيه له. وتنكشف خلال ذلك أطماع حسقيل في التفرد بالثروة، ورغبته في الانفصال بما يملكه مما ادى الى نبذه من الجميع.


راح ابراهيم يتأمل في النجوم وهم يجلسون خارج بيت الشعر في بداية الليل، ورغم ان تلك الايام كانت الايام الاولى من الشهر العاشر (تشرين الاول) فقد كانوا جميعا يرتدون كنزات (فروات) (1) صوفية من غير اكمام، تصل الى ما تحت الخصر بقليل، عكس فروة الشتاء التي تكون بأكمام وتكاد تلامس الارض عندما يرتدونها، وغالبا ما تستخدم غطاء في النوم المنفرد، الا حليمة فإنها تبقى على هذا النوع من الفروات القصيرة من غير كم، لتسهل لها مهمة العمل والحركة داخل البيت، ولأنها بحكم استقرارها في البيت يكون تعرضها للبرد اقل منهم.
كان الجميع يرتدون فروات قصيرة.. اتقاء لنفحات برد الشهر العاشر، لكنهم كانوا يتمتعون بطراوته ولا يدخلون بيت الشعر الا عندما ينامون، ومن ينام خارج البيت لا بد ان يحتاج الى دثار.
كانت نفحات البرد تأتي معلنة تغير الطقس، بعد ان عبر الشهر الاول من الخريف وصاروا في شهره الاوسط: العاشر.. كانت عينا ابراهيم تتقلبان في السماء بعد ان سمع سؤال محمود، كأنه يستنجد بالله ان يهديه الى الجواب الصحيح، في الوقت الذي يتأمل عظمة شريعته وقانونه، وهو ينظر الى السماء التي رفعها رب السموات من غير عمد، وزينها بالنجوم هادية ورجوما للشياطين.. ثم ينتقل ابراهيم بنظره الى الابل والماشية.. يتأملها ويتأمل ما فيها من تسهيلات خلقها الله للانسان.. ثم يقول بلغة مليئة بالثقة مع الايمان:
ان الاساس، يا ولدي، ان نؤمن بإله واحد، هو الله، سبحانه وجلت قدرته.. انه ربنا وخالقنا، ولا اله آخر غيره.. واننا له مسلمون مشيئتنا وفعلنا وعبادتنا له سبحانه وليس لغيره.. وان اقامة العدل والانصاف وقول الحق والعمل به ورفض الباطل والسعي في الارض في علاقاتنا الانسانية، معمرين لها لا مفسدين، هو سبيلنا، ولذلك عليكم ان تتذكروا شريعتي وما علمتكم اياه قولا وفعلا، وبعد ذلك، لكم ان تجتهدوا، على ان تراعوا وانتم تجتهدون، ان يكون اجتهادكم، اذا اضطررتم، منزها من الهوى وعلى اساس الضرورة الملجئة لما تقتضيه الحياة ويستوجبه الدين، وليس محض بناء طريق مختلف بين طرق مطروقة، ليعرف صاحبه فيه، وان لا يرتب الاجتهاد او ينشئ حقا من باطل او يلغي ويزور حقا ثابتا، وان لا يكون تعبيرا عن ضجر او خوف او مراءاة ونفاق او تعبيرا عن غضب او رغبة في الحاق اذى بآخرين وان يكون اتكالكم بعد ذلك وقبل ذلك، على الواحد الاحد.. وان النية والهدف الصادقين حالة فاصلة وان الامانة والدعوة لها والعمل بها واقامة العدل والحج الى بيت الله لمن استطاع اليه سبيلا، ضرورية كلها وان التوفيق بعد ذلك من الله القادر الحكيم.
عاود ابراهيم التأمل في الطبيعة.. ثم قام وصلى.. ودعا حليمة وولديه لأن يصلوا ايضا..
بعد ان انجزوا صلاتهم، جاءتهم حليمة بما قسمه الله من المطبوخ من طير (الحبر) الذي اصطاده محمود بعصاه او سهامه، وهو يباري رعاة الإبل والغنم في المرعى.
بعد انتهائهم من العشاء وجدوا انهم بحاجة الى ان يوقدوا نارا.. كانت السماء صافية، تسطع فيها النجوم التي تستطيع عين الانسان ان تكتشفها وتمتد اليها.. وراح محمود ويوسف يتباريان في ذكر اسمائها، وراح ابراهيم يصحح لهما ما يخطئان فيه او يضيف الى معلوماتهما ما لم يهتديا اليه.
قال محمود.. بعد ان استأذن جده:
أليس من الافضل ان توزع الاتجاهات بيننا بصورة اسمية، يا والدي؟.. توزعها بيني وبين يوسف، لكي يعرف كل منا حدود مسؤوليته في ما يدعو اليه الناس، مبتدئين بالعرب، حيث هناك العراق، الى الشرق منا، وعلى مقربة منا بلاد الشام، وبعدها الحجاز ونجد واليمن.. أليس من الافضل، ومنعا للتداخل ان تقول لكل واحد منا اين يتجه في نشاطه، ليعرف كل منا سبيله؟
قال ابراهيم:
نعم، اقول ابتداء ان اهل نجد والحجاز واليمن والعراق، عدا نينوى، من حصتك يا محمود، اما اهل نينوى في العراق، وكل بلاد الشام، عدا ارض الجزيرة الملاصقة للعراق، فهي من حصة يوسف، واعود لأكرر، ان هذا التقسيم اسمي وليس مطلقا، وهو الى حين وليس دائما، ولاغراض النشاط وتوجيهه وليس لاغراض الاختلاف وفي كل الاحوال، فأي اختلاف بينكما، يجب ان يكون الحكم الفاصل فيه شريعتي وما يرضي الرب الرحيم، وان تتذكرا انكما ابنا عم، وان تبعدا عنكما الشر وحكمه والطمع ومهاويه وان تبقيا الشيطان بعيدا عن صدريكما وعقليكما وان تتنزها عن الهوى وان تبعدا فتن الاجنبي عنكما وطريقة فهمه للدين.. وان تحذرا حسقيل لئلا يلوث دينكما بالهوى والطمع ويحرف طريقكما.
هنا سأل محمود جده ابراهيم:
قلت ان نبتعد عن فتن الاجنبي بيننا.. وهذا مفهوم، لكنك قلت (وفهمه للدين وطريقة او طرق التعبير عن الدين، على اساس هوى الاجنبي او فهمه).. أليس دينك وشريعتك انسانيين يتعديان امتنا ويتوجهان الى أمم الارض كلها ام انهما قوميان فحسب؟
تأمل ابراهيم في وجه محمود وهو يبتسم بحبور واضح، وقال:
نعم، يا ولدي، ان ديننا وشريعتنا انسانيان، لكن امتنا هي قاعدتهما الاساس.. وهذا ما اراده الله سبحانه ولذلك فان ما يختمر في القاعدة، يا ولدي، في روحه وبنائه، هو الاساس وان توجهنا في دعوتنا الى الانسانية ككل يقتضي، مع ضرورة التنبه الى اننا حيثما تشعبت امامنا الطرق بعد ذلك، ومن بعدنا الاجيال التي نورثها العقيدة، نعود الى الاساس والمنطلق وما اختمر في وعاء الامة وضميرها وعقلها، ليكون بوصلة حركتنا الى الامام والقاعدة والحكم الفصل في ما يختلف عليه او يقال فيه من اجتهاد، ذلك لأن الامم الاخرى، ستتلقى الدين منا وسنكون نحن مستودع اسراره ونبضه وروح انطلاقته ونماذجه الحية في منبعه الاساس وان اتسع الافق امامنا ليمتد الى البعيد البعيد، ذلك لان الأمم الاخرى متكونة على اعتقادات ليست بديانات الهية، وانما عبادات قومية صيرتها رغبة او عبقرية اصحابها في تلك الامم، لتلتم عبر التاريخ على ما يوحدها ويحقق لها الاهداف التي اختارتها في مراحل متعاقبة من الزمن، لذلك ما ان يؤمنوا بأساسيات ما ندعوهم اليه وينفصلوا عن توجيهنا المباشر، حتى تخالط عقائدهم السابقة الدين الجديد.. ومع تعدد الاجيال واحتمالات انتشار البدع على اساس الهوى او التسهيلات التي تنادي بها حياتهم او تفرضها عليهم هي وملوكهم، تصير اساسيات ما عرفوه عن تقاليدهم القومية من عبادات، كأنها اساس لدينهم وشعائرهم وتكون اساسيات الدين الجديد كأنها جزء من ذلك، وليس القاعدة والجوهر الذي يلغي ما عداه او يصححه بموجبها والخطير، يا ولدي، ان تتوافق مع هوى النفس الرغبة في الانعزال عن التوجيه المباشر للعرب المؤمنين على الوصف الذي ذكرناها عنهم.. وعندها تكون كأنها اديان جديدة وان سميت باسم ديننا.
قال محمود:
شكرا، يا والدي.. لقد فهمت.
قال يوسف لابراهيم:
التقيت قبل زمن بأناس من بلاد الروم.. التقيتهم بادئ الامر مقبلين بقوافلهم الى نينوى من بلاد الشام، وعرضت عليهم ديننا، مع انهم اجانب ومن قوميات اخرى، فهل ما فعلته صحيح ام خطأ؟
بل، صحيح، يا يوسف، ذلك لأن ديننا موجه الى الناس كلهم، عربا واعاجم، سواء كانت بشرتهم بيضاء او سوداء او سمراء او من اللون الاصفر، كما في الصين وما جاورها، لكن عليكما الانتباه الى ما قلته لمحمود الآن، لأنه يعنيكما، وان كان لكل منكما اجتهاده وطريقه الآخر بعد ان انطلقتم من طريق التوحيد الاساس.
نعم يا والدي، سوف انتبه الى ما قلته لنا الآن، لانك تقوله لأول مرة.
نعم، يا ولدي، قلته لأول مرة، ليس لأن محمود سألني عنه الآن، ذلك انني كنت سأقوله.. ولو لم اقله اليوم، لقلته غدا او بعد غد، لان دعوتنا كانت محصورة في بلاد العرب فقط، اما الآن فصارت تمتد الى اقوام وشعوب اخرى.


*****


منذ ذلك اليوم عرف كل حدود واجباته، وصار كل منهما يستقبل من يستقبله ويوجه من يوجهه، على اساس ما امر به ابراهيم مثلما كانا يفعلان قبل ذلك او يخرج كل منهما الى مواطن القبائل والقرى او مسارات رحلات الشتاء والصيف، بين بلاد الشام وهذه الاصقاع من ارض الله.



***



كان حسقيل قد استقر في قبيلة مناوئة لقبيلة غريمه: ذلك الشيخ الجليل، وجعل البحر الميت بينه وبين الاماكن التي تسكنها قبيلة الشيخ او مرابعه ومشاتيه، حيث يستقر جده ومرابعه ومشاتيه، وما ان حل في تلك القبيلة البعيدة ولنسمها (القبيلة المضطرة)، فيما نطلق على قبيلة الشيخ الطيب اسم (القبيلة المختارة)، حتى بدأت المشاكل تنشب وتزداد احتداما بين القبيلتين، وكان اساس التحرش هو تحريض حسقيل لتلك القبيلة، ليروج بضاعته من الاسلحة وليدفع ابناءها الى كسب غنائم ليبيع الذهب والفضة لنسائهم ولمن يرغب في شرائهما ولا يملك اموالا تعينه على ذلك.
كانت دسائس حسقيل تزداد، بعد ان رتب اشعارا وقصائد عن طريق من اغراهم ودفع لهم، تسيئ للقبيلة المضطرة وشيخها، وبناته وبنات العشيرة ويدعي من ينقلها بأنه سمعها من شيخ القبيلة المختارة مباشرة او من شعراء قبيلته في اي من رحلات الشتاء والصيف او في مرابع العشيرة ومشاتيها، وكان يفعل الشيء نفسه مع شيخ القبيلة المختارة عن طريق آخرين او عن طريق نفس الاوساط، ناقلا اليه والى قبيلته ما هو معاكس عن شيخ القبيلة المضطرة وافراد قبيلته، لكن شيخ القبيلة المختارة كان غالبا ما يأخذ رأي ابراهيم في ما يصله من الطرف الآخر، فيهدئه ابراهيم، ويقول له ان ذلك من فعل وتدبير حسقيل، وهما فعل وتدبير غير نزيهين، ويحذره من ان يوقع بينهما، لكن شيخ القبيلة المضطرة لم يكن امامه من يحذره من حسقيل، الذي صار يتصرف مع شيخها وكأنه صاحب فضل عليه وعلى قبيلته، ذلك انه قال لشيخ القبيلة انه على استعداد ليصنع له ولقبيلته السلاح الذي يحتاجونه، وانه لن يستوفي ثمنه الى ان يغزو شيخ القبيلة المضطرة القبيلة المختارة وشيخها، لقاء فائدة اتفقوا عليها.. وصار حسقيل من يومها يتردد كصديق حميم لشيخ القبيلة المضطرة ومستشارا في الاغلب الاعم، لا يتجاوز رأيه في ما يشير به او يقوله.. وصارت القبيلة المضطرة تكثر الغارات على القبيلة المختارة وتنصب الكمائن وتستولي على الماشية وتقتل من تنفرد به خارج الجماعة، وغالبا ما كانت القبيلة المضطرة، عندما تقوم برد فعل على القبيلة المختارة برد فعل على اعمالها واعتداءاتها، تتملص من المواجهة المباشرة، وتتحصن في حصون اعدت لهذا الغرض او تنسحب الى الجبال، متخذة من المغاور والكهوف البعيدة التي يعرفونها مأوى لهم، خاصة عندما تقرر القبيلة المختارة مواجهتهم بحشود منظمة، اما اذا رأوا ان المجموعة التي تواجههم ليست حشودا منظمة وانما محض مجاميع من غير عمق، كانوا ينقضون عليها ويقتلون رجالها ويروعون اطفالهم او يقتلونهم ويستولون على متاعهم ومواشيهم واذا ما ظفروا بأي من نسائهم اتخذوها سبية.
عندما حل الربيع في السنة الثانية، نصح حسقيل شيخ القبيلة المضطرة بأن يرتحل، ويتجاوز الارض التي كانت محرمة عرفا بين القبيلتين، كمسافة امان لتجنب الاحتكاك والتهيؤ عند اعتراض القبيلة المختارة للانقضاض عليها والاستيلاء على مواشيها (حلالها)، وقتل رجالها وسبي نسائها، وسحقها سحقا كاملا، بدلا من اسلوب الغارات والمهارشة، لكنه التمس او اشترط امرا على شيخ القبيلة ان هم غلبوا غريمهم:
ان شرطي الاساس، يا شيخ، هو ان تجعل ابنة شيخ القبيلة من نصيبي، اذا غلبتم.
ورغم ان ذلك كان شرطا قاسيا، حيث كان شيخ القبيلة المضطرة طامعا بها لنفسه، على اساس عرف ذلك الزمان، فقد قبل شرط حسقيل على مضض.
في أواخر شهر فبراير (شباط) من تلك السنة، أمر شيخ القبيلة المضطرة ان يشد عدد قليل من الرجال الرحال من غير نساء واطفال، ليجاوروا، متجاوزين الارض الحرام، القبيلة المختارة، وقال إنه سيختار الوقت المناسب ليأمرهم بالهجوم على القبيلة المختارة.. بعد الوصول، كان حسقيل قد أقنع شيخ القبيلة المضطرة بأن بقاءه في الديار ضروري لتدبير شؤون بيت الشيخ، والاستجابة لطلبات الحريم، والأهم هكذا قال حسقيل ان اواصل صناعة النبال والسيوف والخناجر، والرماح، لأن القتال قد يمتد إلى زمن طويل قبل أن يتحقق النصر.. ولأن صاحب العادة السيئة الذي يكون الشيطان رفيقه بدلا من معاني الرحمن، لا يغير عادته، فما أن خلت له الدار بعد رحيل شيخ القبيلة، حتى بدأ يغازل زوجة الشيخ، ويقدم لها الحلي بسخاء لاستدراجها إلى بيته، وعندما كانت تنهره بادئ ذي بدء، وتقول له: أنا زوجة شيخ القبيلة يا ولد، وان من ابسط معاني إخلاص المرأة لزوجها أن تحفظ غيبته وشرفه فيها..
يقول لها حسقيل متضاحكا:
إنك لست بنت عمه، بل لست بالأساس من قبيلته وقومه، إنما غريبة عن قومه، وان عادات أهلك ليس من عاداتهم وتقاليدهم، ومع هذا، وفوق هذا، ما ادراك، فقد لا يعود شيخ المضطرة، حيث قد يقع في الأسر، أو يقتل، وعندها لن يبقى لك وأنت غريبة من تلوذين به غيري.. مع ما يردف هذا من كلام معسول يقوله.. وما ان تمكن منها، حتى بدأ يساومها على بنتها الوحيدة، خاصة بعد أن رأتهما متلبسين بالجريمة النكراء، وعندما كان يقترب من ابنة الشيخ تنهره، لكنه يقول لها: انه حاول مع أمها لأنها الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها وبعدها ان يصل إليها، ومع ان الابنة كانت تشمئز من قوله، مثلما اشمأزت من فعلته مع أمها وفعل أمها معه، لكن مع مرور الأيام، واطلاعها على فعل والدتها معه، بدأت تغير أسلوبها جزئيا، وتناقش نفسها لمواجهة المصيبة بأسلوب آخر.. ذلك ان هذه الأم كانت تنسل مع زوال الشمس في افقها، ومجيء الرعاة بالغنم، وانصرافهم إلى بيوتهم، إلى بيت حسقيل، ولا تعود إلى بيتها إلا قبل بزوغ الشمس بقليل، وعندما كانت الابنة تعاتب أمها، وتلومها، تقول لها الأم:
دعيني لحالي، انك لم تتزوجي بعد، ولا تعرفين شعور المرأة الغريبة عندما يغيب عنها زوجها الذي لا تحبه.. ثم انني، تقول الأم، لست منكم ولا على تقاليدكم، وان أباك كان يعرف عندما تزوجني بأنني عاشرت رجالا آخرين قبله، وعليه ما دامت غيبة ابيك غير معروف أمدها، فدعيني لحالي مع حسقيل، وليتحمل كل وزره.. الخ.. من الكلام الأعمى النزق.
ثم تقول: ان حسقيل رجل قوي، ويعرف كيف يعامل المرأة في السرير وخارج السرير، وهو الآن من يتولى أمر عائلتنا في غياب فرسان الديرة.. كما انه فوق ذلك اغرقنا بالذهب.. أنظري.. هذه القلادة منه، وتلك الاقراط، وهذا السوار منه ايضا.. وهو بصدد أن يحوك لي حزاما من الذهب، مطعما بالفضة، وعندما اقول له إن هذا كثير، يقول لي (ابديلك) نفس حسقيل، أي نفس حسقيل فداء لك.
ورغم ان كلام امها هذا لم يدفعها الى تصرف مضاد، فإنها مع الزمن راحت تداور مع نفسها كل شيء تسمعه منها: الحلي.. ولا تملك شيئا منها، ذلك ان أباها يملك، لكنه بخيل ولا يستهويه الصرف على عائلته، لذلك أبقى زوجته وابنته في حرمان إزاء رغبات الحد الأدنى، رغم تمكنه ماديا من ذلك.. أليس المثل القائل (اكسر البصلة وشمها تأتي البنت على أمها)، صحيحا؟، ثم ماذا يمكن أن يتوقع من بنت لا تنظر أمها لأبيها بتقدير ومحبة واحترام، وتحكي لابنتها ما يشوقها للفاحشة، غير ان تهوي البنت في قعرها إذا استسلمت لمهاوي الشيطان، ولم يكن فيها ومن حولها ما يحصنها؟، لكن بنت الشيخ لم تهو إلى قعر البئر الآسن السحيق التي سبقتها أمها إليها، رغم انها كانت قد قدرت هي وأمها أن شيخ القبيلة المضطرة اضعف من أن يعاقبهما عقابا صارما، إذا عرف.
نعم، ان الاعداد الجيد، والتربية الجيدة على المبادئ، وفي مقدمتها مبادئ الدين والالتزام بحقوق الله، وحقوق الناس، مثلما هي حقوق الإنسان نفسه، في الأقل، مهمة لحصانة الإنسان إزاء مزالق الشيطان، سواء من رجل أو امرأة، أو في علاقة الرجل بالمرأة، أو في الحقوق والأمور الأخرى، لكن يبقى ثمة شيئان حاسمان أمام انهيار أي خط دفاعي مما ذكرنا.. أولهما الوسط الاجتماعي القريب (العائلة).. او الوسط الاجتماعي الأبعد (المدرسة، الدائرة، السكن، الاصدقاء، والمعارف).. الخ.
والثاني هو العقاب، على قاعدة المثل العربي المشهور (من أمن العقاب أساء الأدب).. و(آخر الدواء الكي).
ان العقاب، سواء كان عقاب القانون أو عقاب العائلة نفسها، هو الخط الدفاعي الأخير والحاسم، إذا ما انهارت الخطوط الدفاعية الأخرى، ذلك ان أي إنسان عندما يعرف أن هناك رادعا ينتظره، وقد يكون الرادع قاسيا، يفكر ويفكر ويفكر، قبل أن يقدم، وبخاصة عندما يكون الإقدام على فعل ليس مما يعزه، أو يعز أهله بين الناس، إنما يخزيهم أمام الله والناس، وقد لا تفضي نتائج التفكير والتأمل في سوء العاقبة الى التردد فحسب، إنما إلى الامتناع والسعي إلى تحصين النفس، بما يقنعها ويحول بينها وبين الرغبات غير المشروعة، لذلك فإن الله، سبحانه، وهو يعد عباده الصالحين والمتقين بالجنة وطيباتها، يحذرهم من النار، ويعد الكافرين والضالين بها، والعياذ بالله من حرها وما يخزي النفس فيها أمام الله.

*****


افتعل حسقيل العفة ذات ليلة، مدعيا أنه منشغل بأفكار كلها خطيرة، وعندما سألته زوجة الشيخ:
ماذا بك، يا حسقيل؟
قال:
ان فكري منشغل باحتمال أن تخبر ابنتك أباها الشيخ، عندما يعود، وعندها سنكون، أنا وأنت، أمام وضع خطر.. بل سيكون حكمنا معروفا مسبقا، ومصيرنا إلى موت محتم.
وعندما تحاول أن تثنيه عن هذه الهواجس وتقول له.. إن ابنتها لن تقول شيئا لأبيها.. يقول لها: بل ستقول له، وحتى لو تغاضى عن هذه الحال، فإن أعمامه لن يتركونا سالمين.
وعندما تسأله: ما الحل؟ يقول لها: إن الحل الوحيد الذي يجعلنا في أمان هو أن أغويها وأراودها عن نفسها.
وعندما تجفل زوجة الشيخ لوقاحته وخروجه عن المألوف، يقول لها: هوني عليك، أنا لا اقصد أن أفعل معها ما أفعله معك، إنما قصدي أن تتعلق بي، وأن أقبلها، وأن تنام معي في الفراش من غير أن أنال منها، وضمن توقيت بعينه نتفق أنا وإياك عليه، تداهميننا لتريها وهي معي في الفراش، وعند ذلك تعنفينني وتعنفينها، لكي تستمر علاقتنا، أنا وأنت، مثلما هي عليه الآن، وتكون عين ابنتك قد (كسرت)، ولا تكون بعد ذلك قادرة على إفشاء سر علاقتنا لوالدها.. أليس الاشتراك في الجرم يقود إلى الحرص على عدم كشفه؟!.
وعندما قال (الاشتراك في الجرم) ادرك غلطته.. لكن ليس كاللسان مما لا يمكن تفاديه عندما ينفلت.

*****

وصل شيخ قبيلة المضطرة إلى مكان قريب من الحافة القريبة لمكان انتشار القبيلة المختارة، وحيثما نبهه أحد رجاله إلى ذلك، أمرهم بالمسير، حتى صاروا ملاصقين لمسرح ابل القبيلة المختارة..
أمرهم الشيخ أن ينزلوا من فوق ظهور الجمال، بعد ان تبرك كل في المكان المخصص لبناء البيت الذي يعود لصاحبه، لكن بدلا من أن تكون هناك عائلة في كل بيت جعل في كل بيت مجموعة من الرجال حيث لم ترافقهم نساء ولا أطفال، إنما فرسان قادرون على حمل السلاح والقتال فحسب.
فعل الرجال ما أمروا به، بعد ان حدد شيخ القبيلة مكان بيته وأماكن بيوت قومه ووجودههم على يمين ويسار بيته، وأمرهم بأن لا ينسوا، وهم يبنون بيت الشعر، أن يجعلوا (الربعة) (2)، أو الديوان من جهة شروق الشمس، في الوقت الذي يكون الطرف الآخر للبيت باتجاه مغيبها، سواء كانت قبلة البيت شمالا أو جنوبا.. وعندما يعترض احدهم بالقول إن ليس معنا عوائل، يا شيخ، ينهره الشيخ ويقول له:
أتريد أن تغير عاداتنا وعادات العرب، يا حمار، لمجرد أننا وضعنا أنفسنا ضمن خطة جديدة لمداهمة العدو؟، ثم لو غيرت طريقة بناء بيت الشعر، فإن أي عابر سبيل سيكتشف حالتنا الشاذة، وعندها قد يقول إنهم ليسوا من أهل الديرة، أو دخلاء عليها، مما ينبه شيخ القبيلة المختارة وجماعته، ويجعل من الصعب علينا مفاجأته.
حط الرجال الأثقال عن إبلهم، وباشروا في بناء بيوت الشعر، وما أن تم بناء بيت شيخ القبيلة، وعدد من بيوت شيوخ القبيلة الأدنى مرتبة منه، حتى لاح لهم من بعيد خيال قافلة قادمة، ليس فيها خيول ولا جمال، إنما عدد من الحمير، قال ذلك من استطاع أن يراها من مسافة أبعد فحسب، وقد استنتجوا ان عدد العوائل في القافلة ربما لا يزيد على عشر.. وأراد بعض الشباب أن يستقبلوا القافلة على مسافة من ديارهم، ليبعدوا مسارها عن المكان الذي حطوا فيه، بعد ان امرهم شيخ القبيلة بذلك، إلا أنه انثنى بعد أن قال أحد الشيوخ:
لو فعلتم ذلك، ربما ستثيرون اهتمامهم بنا أكثر، وربما حتى شكوكهم وهواجسهم إزاءنا.
بعد دقائق جاء مقدمهم، وسلم على شيخ القبيلة، قائلا:
تشرفنا يا شيخ القبيلة المضطرة.
كان شيخ المضطرة يعرف هذا الرجل، ويعرف أنه وجه لناس من الغجر، الذين غالبا ما كانوا يتنقلون بين القبائل، لترقص نساؤهم عند من يستدعيهن لذلك، وغالبا ما يكون بيت أكبر شيخ في القبيلة مكانا للرقص، ثم يتناوب من بعده شيوخ القبيلة على استدعائهم لحفلات في بيوتهم، بعد ان يستأذنوا الشيخ الكبير. وهكذا حتى ينتهوا من ذلك، وبعدها يتحولون الى قبيلة ومنازل اخرى، ومن هذا يعيش الغجر ولا يعملون أبدا بأي نوع من أنواع العمل، إنما يمتهنون الرقص فقط، يرافق الرجال النساء إلى حيث يستدعين.. وعندما يبدأن الرقص، تكون شعورهن مغطاة ب (الفوط) (4)، ولا تنزع أي منهن فوطتها، إلا عندما تترك إحداهن فوطتها لدى شيخ القبيلة، تقديرا له، ولإشعاره بأنها عائدة إليه بعد فاصلة الرقص، أو ينهض من ينهض إلى أي منهن ليطلب فوطتها، أو يؤشر لها بيده لتفعل ذلك، ومن تكون فوطتها عنده يعني انها ستجلس قربه بعد انتهاء فاصلة الغناء والرقص، ويتكرر الحال مع تكرار فواصل الغناء والرقص حتى مطلع الفجر.. ويرتاح الغجر وينامون في النهار، ويسهرون في الليل، ويتنقلون في البادية أو الريف، أو يحطون على اطراف المدن، ولا احد يؤذيهم، أو يغزوهم، أو يجبرهم على عمل لا يرغبون فيه، أو يجبر نساءهم على امر لا يرغبن فيه، هذا ما كان عليه حالهم، في تلك الايام والى وقت ليس ببعيد، اما الآن فقد اختلف حالهم، حيث صارت حفلاتهم الاساس في المدن، في بيوت من يستطيعون دفع المال لهم، وبالذات من يملكون مالا حراما يشوي البطون في الآخرة، ويخزي اهله في الدنيا، بعد ان جمعه من يأكلون السحت بعمليات مضاربة، أو بصفقات مريبة، أو تجارة لا تكتفي بحدود الله من الربح، أو أكل مال يتيم أو فقير، أو جراء سرقة ينتظرهم عقابها في الدنيا بقطع اليد أو العنق، عندما يكتشف امر السراق، أو الحبس الثقيل في الاقل، وصارت بعض نساء الغجر لا يتعففن عن الانحدار مع من ينحدر الى الفواحش على اساس عوامل دوافعها واغراءاتها، وصار ما يعد عيبا وعارا وشنارا على من يعتدي على غجري، يجري احيانا ولا يحس اصحابه بتعذيب ضمير أو برادع من المجتمع، على نفس ما كان يحصل ايام زمان، باعتبار ان الرجل ينتقص أو يذم ان هو نازل أو اعتدى على من هو ليس بكفء له.. وقد ساهم في اضعاف هذا الحاجز النفسي لدى الرجال ان الغجر، مثلما ترتبت لهم التزامات وفق القانون، بعد ان استقروا وتخلوا عن حياتهم السابقة، ومنها حياة الترحال والتنقل المستمر من غير ان يستقروا في مكان بعينه، صارت لهم الآن حقوق وواجبات مساوية لحقوق وواجبات الآخرين، طبقا للقانون، ومنها الخدمة العسكرية التي كانوا معفيين منها، ولكنهم في العراق، مثلا قلما تكون لهم واجبات قتالية، وفق ما نعرف، وانما يقومون في الغالب، وعلى اساس تشبثهم بأعمال الخدمة في مقرات بعض الآمرين، وربما حابى بعضهم الآمرين خفيفي الوزن باحياء حفلة رقص له، عند تمتعه بالاجازة.. الخ، ونساؤهم في العادة لا يسمحن للرجال بما يخزي اكثر، في تلك الايام، غير ما يقمن به من غناء ورقص.. وعندما نقول ان احدا لا يؤذيهم في الزمن القديم ولا يغزوهم، ذلك ان العرب لا يعدون الغجر قرناء صالحين أو اكفاء لهم، ولذلك كانوا يعيبون من يتزوج منهم، أو يغزوهم، ومن هذا كانت حريتهم في التنقل ليلا ونهارا، وبين قبيلة وأخرى، أكثر من حرية اي شخص وأي قبيلة من قبائل العرب..
ورغم ان كل الشيوخ الذين كانوا مع الشيخ الكبير ارتابوا من الغجر، وان شيخ القبيلة اظهر انه يرتاب منهم ايضا، ولكنه في حقيقة امره سر بوجودهم.. وكان سبب الارتياب ان الغجر عندما يكونون اليوم معهم فانهم قد يرحلون غدا الى القبيلة المختارة، و(من طباع الغجر انهم ينقلون ما يرونه، الزين والشين، والجيد والسيء، على حد سواء) هكذا قال احدهم وهو يعلن عدم ارتياحه لمجيء الغجر اليهم، ولكن الشيخ قال لمقدم الغجر:
حطوا هناك واشار عليه بمكان على مسافة قريبة من بيته من جهة مغيب الشمس لتكونوا الطرف الغربي لمنزل القبيلة، ولا يكون لأي من القبيلة بيت متداخل معكم أو بعدكم من جهة المغيب.. وخذوا شاة، فاذبحوها وتعشوا بها، واعفونا من مهمة تضييفكم، ذلك لأننا في حالة رحيل..
سأله الغجري:
اترحلون ليلا، يا عم؟
فأجاب الشيخ:
لا، لقد وصلنا قبلكم بقليل، وعندما نكمل نصب البيوت سوف نستدعيكم الى حفلة رقص..
ما ان أخذ مقدم الغجر الشاة من بين عدد من الشياه تعود الى شيخ القبيلة، وقادها الى حيث نزل جماعته، وفق ما أمرهم الشيخ، حتى عن له ان يذهب على الفور الى شيخ القبيلة المختارة تحت غطاء جلب خبز من هناك لتناوله ثريدا مع لحم الشاة، حيث لم يزودهم به شيخ القبيلة المضطرة، وهناك من يفضي الى شيخ القبيلة المختارة بما رآه واستنتجه لينال رضاه وكرمه..
قال مقدم الغجر في نفسه وهو يخاطبها بصوت مسموع:
ان شيخ القبيلة المختارة افضل من هذا الشيخ، وهو وقبيلته اكرم من هؤلاء، واذا كان هذا قد اكرمنا اليوم لأمر اراده في نفسه، فانه سبق ان طردنا من دياره اكثر من مرة، ولم يعطنا ما نأكله، حتى عندما نرقص ونغني له لا يعطينا شيئا ذا قيمة، ثم ان هذا الشيخ جاء هو ورجال قبيلته ليغدروا بالقبيلة المختارة، وليس ادل على هذا مما رأيته، حيث لا نساء ولا اطفال برفقتهم، وانما رجال وسيوف ونبال.. الخ. انهم ينوون ان يأخذوا القبيلة المختارة على حين غرة وغفلة، لذلك عندما ابلغ شيخها، سيكرمنا، وستكون لنا دالة عليه.. وسأقولها له بمفرده، واشدد عليه ان يكتمها لكي لا يؤذينا شيخ القبيلة المضطرة فيما بعد..
ثم يعود ليقول:
نعم، علي ان اقوم بهذا على الفور، لكي لا تفوتني الفرصة، وقد تفوت القبيلة المختارة فرصة الاعداد والتهيؤ لمواجهة العدوان..
ذهب من فوره الى هناك، واختلى بشيخ القبيلة المختارة، وابلغه بما رأى، وقال له استنتاجاته.
شكره شيخ القبيلة، واكرمه بكيس صغير فيه قطع ذهب، ووعده بما هو اكثر، وهيأ له كمية من الخبز، امر بجمعها من البيوت المجاورة لهم، كغطاء لعودته الى حيث مكان تجمع رجال القبيلة المضطرة، فيما لو رآه احد رجال القبيلة بعد عودته الى هناك.

*****


اعد رجال القبيلة المختارة انفسهم لمواجهة نوايا المضطرة، وأمر شيخ القبيلة المختارة رجاله بأن يتجنبوا الاحتكاك برجال القبيلة المضطرة.. ولا يعطوهم بأي شكل من الاشكال فرصة ايجاد غطاء لعدوانهم، لاقامة الحجة عليهم، وقاموا بسلسلة من الاجراءات أهمها ان الشيخ أوعز للنساء بأن يسرحن بالاغنام والابل بدلا من الرجال في الاتجاه المضاد للاتجاه الذي اعتادوا ان تسرح مواشيهم فيه، وان يكون دونهن الرجال على ان يخلى الصف الامامي القريب من القبيلة المضطرة من بيوت الشعر من ساكنيها، ويحتشد الرجال حاملو النبال معززين بالرماح في بيوت الشعر في الصف الذي يلي الصف الامامي، والصف الآخر الذي يليه، فيما يحتشد الفرسان على خيولهم خلف ذلك المنزل في الوديان الكائنة الى الخلف وعلى يمين ويسار أماكن (بيوتنا هذه) واشار بيده الى ما قصده.. وما ان حل الصباح، وقد تعمد مقدم الغجر ان يجعل كل رجال القبيلة المضطرة يسهرون مع فرقته وهم يستمعون الى غنائها، ويحتسون الخمر، ويتمتعون بمنظر الرقص والحركات البهلوانية لمن يقوم بها حتى الصباح، وكان آخر بيتي (نايل) رددهما مقدم الغجر على الربابة:
احوف من حبني مثل ما يحوف الذيب واجيب (اجلب) علم الصدك (الصدق) بلكي الجروح تطيب..
وقال ايضا:
الدرب ما كلفس المجبل على حبابو سلام زين الوصف ريح الهوى جابو وبعدها خرج مقدم الغجر من دار شيخ القبيلة الذي من فوره امر اصحابه بأن يمتطوا خيولهم، ويغيروا على ديار القبيلة المختارة..
لم يواجه رجال المضطرة في طريقهم الى القبيلة المختارة، ابلا ولا اغناما، فاستمروا يغيرون باتجاه بيوت الشعر، وعندما لم يجدوا احدا في الصفوف الامامية لبيوت الشعر، بما في ذلك بيت الشيخ وهو أكبر البيوت، تصوروا ان القبيلة خافت منهم، عندما علمت بوجودهم قربها، وهرب رجالها هائمين على وجوههم بمواشيهم، تاركين البيوت على حالها هي وما فيها من غنائم. ولأن اساس غزوهم وفي المقدمة شيخهم هو السلب والنهب والاستيلاء على الاسلاب، فقد نزلوا من فوق ظهور جيادهم، بمن في ذلك شيخهم، وكل منهم يسابق الآخر في الاستيلاء على بساط هنا أو فراش هناك، أو كيس تمر أو طحين، أو كمية ضئيلة من شعير أو ذرة، أو (عكة) زيت أو زيتون، وكل يضع على ظهر فرسه ما يستولي عليه، الا ثلة قليلة من الفرسان الذين رأوا غبار الماشية في الافق البعيد، فانطلقوا باتجاهها، وما هي الا لحظات، بعد ان قدر شيخ القبيلة المختارة ان القسم الاكبر من القبيلة المضطرة قد ثقل عليه حمله، حتى امر فرسانه المختبئين في الوديان ان انطلقوا. وبدأ رجال النبال والرماح ينقضون عليهم من كل ناحية، كل منهم حسب واجبه ونوع سلاحه.. وعمل السيف والاسلحة الأخرى في رقابهم، وفي الوقت نفسه، عزلوا الفرسان الذين انطلقوا معقبين الماشية والابل، وافرزوا لهم مجموعة من الخيالة لتعقبهم، وتستولي عليهم اسرى هم وخيولهم، فاعملوا السيف في رقاب الآخرين، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، واستولوا على ما يملكون، واسروا اعدادا منهم، لم يطلق سراح اي منهم، الا بفدية مغرية لصاحبه الذي اوقعه في حبائل الاسر، مع حصة معلومة للشيخ في كل ذلك.
وهكذا نصر الله، اصحاب الحق المعتدى عليهم على اصحاب الطمع والضغينة والغدر، ولم ينج منهم الا ما يعادل ثلث العدد، ولوا هاربين، بعد ان رأوا شيخ القبيلة المضطرة يرمي ما حمل فرسه به من غنائم وقد هرب فوق ظهر فرسه قبل ان يجرب سيفه، عندما وجد نفسه في ذلك الموقف الشائك..
نعم، هرب شيخ المضطرة، وهل من مفر غير الهرب من الموت حتى لو كان ذلا لمن يفكر بالحياة على قاعدة ما هو ضعيف وخاسئ، وليس من بين أهدافه ما يعز ليعلي النفس والاعتبار!؟

*****



* هوامش:

1- الفروات، مفردها (فروة)، كنزة على شكل سترة، تخاط من جلود الأغنام بأصوافها، منها الطويل والقصير، يرتديها البدو وسكان المناطق الباردة في فصل الشتاء.
2 الربعة: مشتقة من الربع وتعني مكان جلوس الجماعة في عرف البادية.
3 الفوط: على وزن نقط، وهي غطاء اسود في الغالب كانت النساء، خاصة الغجريات يلففن شعورهن به.
4 الشف: دثار من الغزل يحاك يدويا ويستخدم كغطاء مثل البطانية.

__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثالث :
أخرج منها يا ملعون

كثير من الناس يردعهم الخوف فينافقون المسئول دون اقتناع به

الجزء ( 4 )



تنطلق رواية صدام حسين «اخرج منها يا ملعون» من الكشف عن علاقة الشيخ ابراهيم مع ايتام اولاده الثلاثة، الذين قتل آباؤهم في غزوات ومنازعات قبلية، وتسلط الاضواء على شخصية كل منهم، وهم حسقيل ويوسف ومحمود.
وفي الحلقات السابقة، دارت حوارات بين الجد وأحفاده حول مفهوم الثروة، وأوضح كل منهم ما الذي يعنيه له. وتنكشف خلال ذلك أطماع حسقيل في التفرد بالثروة، ورغبته في الانفصال بما يملكه مما أدى إلى نبذه من الجميع.
ثم يوزع الشيخ ابراهيم «البلاد» على حفيديه محمود ويوسف، داعيا إياهما إلى الابتعاد عن فتن الأجنبي. أما حسقيل فقد استقر في قبيلة مناوئة.


في غياب شيخ القبيلة، وبمعاونة زوجة الشيخ، وباستخدامه اسلوب الاغراء، والفراغ الذي تركه غياب وجوه القوم في رحلة الغزو، نظم حسقيل شبكة من المستفيدين، واصحاب النفوس الضعيفة... وما ان خلا الجو لحسقيل، وباشر يمارس بعض الواجبات التي كان يمارسها الشيخ أو أبناء عمومته في القبيلة، حتى امالتهم مصالحهم ونفوسهم الضعيفة إليه..

نعم، هكذا ينساب الماء الضعيف إلى المنحدر، ولا يصعد العاليات، وتجد الجرذان فرصتها في أي فراغ بين جدران البناء لتنفذ إلى داخله، وتفرخ الافاعي في السقوف الهشة، أو بين الانقاض، وكذا تفرخ الشياطين، مثلما تفرخ العقارب في الجحور المظلمة وهوائها الفاسد، أو في غرف ودهاليز البيوت المقفلة التي لا يدخلها النور، ولا يتبدل فيها الهواء.. ثم أليس كثر من الناس، حتى يومنا هذا، يؤثر فيهم الحضور، ويردعهم الخوف من السطوة، وتراهم ينافقون بحضور مسؤول لا يقتنع أي منهم به وبدوره، وما أن يحتجب عن الظهور، أو يغيب عن كرسيه، أو يضعف ساعده على سيفه أو سوطه، حتى تسلقه ألسنتهم سلقا، وما أن يستبدل بغيره حتى كأن القسم الذي أدوه بحضوره شيء لم يكن، أما صاحب الحضور في إدارة مسؤولية بعينها. أو عنوان قيادي على أساس تميزه بالخواص، لأداء واجباته على قاعدة مبادئ وعمق تضحية تقتنع بها الجماعة، فرغم ان حضوره ضروري لممارسة الدور القيادي بخواص القيادة وتأثيرها، واشهاد الجماعة على النموذج الحي الذي يكونه ليقتدوا به بعد ان يتعلموا منه، فإن غيابه لا ينهي تأثيره، حتى لو كان غيابه بالموت، أو الشهادة. وعلى اساس هذا يفهم لماذا وكيف اندثر الذكر الحسن لعناوين وعناوين، وعلى أساس ما هو نقيض، يفهم الموقف من سيدنا علي وسيدنا الحسين وسيدنا الحسن، رضي الله عنهم وارضاهم، هم والصالحين من ذريتهم وكل من عمل صالحا إلى يوم الدين.. نجد ان شجرة النسب لعائلة سيدنا علي محفوظة حتما بحفظ الله، سبحانه، وباعتزاز من ينتمي إليها ومحبة الناس لها.. وفي الوقت الذي كان اتباع السيد المسيح، هم والحواريون بأعداد قليلة في فترة حياته، ازدادت اعدادهم بعد موته، أو رفعه إلى السماء، إلا الديانة اليهودية، فإن عدد المنتمين إليها لم يزدد، إلا قليلا، ذلك لأن الدين اليهودي الآن ليس صحائف موسى عليه السلام، ولم يبن عليها، إنما على أساس ما اخترعه أو صوره أو نسبه إلى ذلك دهاقنة اليهود وأحبارهم عند أسرهم في مدينة بابل التاريخية، وما اضافوا إليه بعد ذلك وفق النظرية الصهيونية العالمية ودورها التخريبي التآمري الاستغلالي في العالم، وعلى أساس ما تم وضعه وفق هذا لم يكن مقنعا لأصحاب الحجا من الناس، فبقي المنتمون إليه يتناقصون ولا ي زدادون، رغم ان دينهم اقدم الأديان بعد دين التوحيد لإبراهيم، خليل الله، وأبي الأنبياء.. أما الدين الإسلامي، فإنه بعد أن كان بالعدد القليل الذي كان عليه من أسلم في الحجاز قبل وبعد فتح مكة، فقد توسع وازداد عدد المنتمين إليه اضعاف اضعاف ذلك العدد بعد وفاة الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم.. حتى وصل إلى جنوب فرنسا من جهة الغرب، وأسوار الصين من جهة الشرق، على عهد الدولة الأموية.

لكن هل يكون لأصحاب الخواص الضعيفة، الذين لا يصلحون قدوة جمعهم، حضور في نفوس وعقول جمعهم، وتأثير في حالة غيابهم؟!، وعلى أساس هذا التساؤل، هل يصلح شيخ القبيلة المضطرة، الذي اضطر أهله وقبيلته للقبول به بعد موت أبيه فجأة من غير أن يسبقه مرض ينبئ بموته، مع معرفتهم بأنه لا يستحق المشيخة، وانه غير مؤهل لها.. بينما اختارت القبيلة المختارة، بتشاور اصحاب الحل والعقد، شيخها باقتناع وحماس، لأنه يحمل صفات القيادة لقبيلتهم؟.. وقد يكون هذا واحدا من أهم الأسباب التي جعلت النزاع محتدما بين القبيلة المختارة والقبيلة المضطرة، بالاضافة الى عواملها وأسبابها الأخرى.

وعلى هذا وجد أصحاب الخواص الضعيفة، وفي المقدمة منهم حسقيل، ان الجو مهيأ ليصطاد في ماء عكرته دماء سالت من قبل، وخيول وجمال خاضت به في منازعات مستمرة، ولكن لم تصل الحال بينهما الى حد ان تغزو القبيلة كلها القبيلة الاخرى كلها، مثلما غزت القبيلة المضطرة هي وشيخها، بل وشيوخها بالمواقع الأخرى داخل القبيلة، القبيلة المختارة.

في هذا الجو، والحالة الهشة داخل القبيلة المضطرة التي تبدو فيها رؤوس أهلها كأنها ملتقية، لكن في إقفاص الصدور قلوب شتى، وبعد ان وجد ضالته في زوجة شيخ القبيلة، وبعدها بمن استضافهم وانزلهم على مقربة من ديارهم وهم مجموعة من الروم تضاعف عدد افراد القبيلة المضطرة او زاد عن ذلك لطمعه في تصريف بضاعته عليهم.

وفي هذا الجو ايضا سمعوا بالنكسة التي اصابت شيخ العشيرة ومن معه في غزوهم للقبيلة المختارة، قبل ان يصل شيخ القبيلة عائدا الى ديار عشيرته..



***



رغم ان زوجة شيخ العشيرة المضطرة نفرت من حسقيل باديء الامر، وهو يشرح لها خطته لاستدراج ابنتها الى فراشه، وذهبت تاركة اياه في بيته في بداية تلك الليلة.. ورغم انها لم تذهب الى بيت حسقيل في اليوم التالي، لكن ما ان حل منتصف الليلة التالية حتى وجدت نفسها غير قادرة على الاستغناء عن علاقتها به، لذلك راحت تذرع البيت جيئة وذهابا..
رفعت ابنتها رأسها من على الوسادة لتقول لها:
اراك لم تنامي حتى الآن، يا امي.. ولم تذهبي الى حيث ينبغي.
قالت ذلك بصورة واثقة من انها تعرف كل شيء، وأي شيء، قالته وهي (تتمزمز) وتكاد تكتم ضحكة استهزاء خلفها ألم دفين في نفسها، واردفت تقول:
حتى انني لاحظت انك عدت يوم امس في وقت مبكر، وانك لم تستطيعي ان تنامي وفق ما لاحظته الى الفجر.
عندما سمعت امها ذلك من ابنتها لذة، لاحظت انها كانت تقول ذلك وتكتم ضحكتها، لكن ليس بصيغة المتشفي او اللائم على عمل قبيح، وانما قالته بخلاف ما كانت تتصرف على اساسه في السابق، اي بلهجة اقرب الى التعاطف، مثلما صديقة تعرف عن صديقتها ما يعبر عن هوى نفسها وان لم تحزه او هكذا توهمت الأم.. لذلك قالت لها امها:
أتذهبين معي لو ذهبت؟
اجابتها ابنتها لذة:
وماذا افعل معك وما هو دوري؟
لاحظت امها انها قالت ذلك بصيغة المستفهم وليس المستنكر.. قالت الأم لابنتها لذة انها تخاصمت مع حسقيل في اليوم السابق وانها غادرت بيته محتجة.
لم تشأ لذة ان تسألها عن السبب، لانها قدرت ان أمها قد لا تريد ان تفصح عنه.
بعد تردد كان التمنع فيه اكثر من الامتناع والتمثيل فيه اكثر من الحقيقة، قالت لذة:
لا بأس، لكن علي ان لا ادخل البيت معكما!؟
قالت الأم:
لماذا لا تدخلين البيت ونحن الآن في وقت متأخر من الليل؟ سوف يؤذيك البرد ان بقيت في الخارج..
قالت لذة:
بيت حسقيل صغير (مكورن)، اي بعمودين ووجودي في الداخل يحرجكما.
واصرت على موقفها هذا، رغم محاولة امها لاقناعها..
قالت الأم:
لا بأس، لكن عندما تبردين وتحسين بذلك، عليك ان تدخلي الى الربعة (الديوان)..
قالت الابنة:
لا بأس.
عندها ذهبتا الى حسقيل وعندما دخلت زوجة الشيخ قالت له:
لم آت اليك، وانما جئت اختار للذة هدية.
الدكان امامك.. وفتح لها صندوق خشب كبيرا لتختار منه.
اختارت قلادة.. وقالت:
احضر لي المرآة.. وكان حسقيل قد علقها امامها على عمود بيت الشعر، عندما علقت القلادة لصيق رقبتها، لتلاحظ ما اذا كانت تلائمها ام لا او هكذا تظاهرت، طلبت من حسقيل ان يربط لها ذؤابتي او نهايتي القلادة على رقبتها من الخلف.. وقالت بعد ان ادعت انها حاولت فأخفقت:
لم استطع ربطها.. هلا عاونتني، يا حسقيل؟
قال حسقيل وهو (يتمزمز):
(ابدالك)، اي فداء لك.
امسك حسقيل طرفي القلادة من الخلف، وقرب جسمه منها وقبل ان يربط القلادة، استدارت نحوه وطوقته بكلتا يديها، وهكذا فعل هو الآخر وكل يعبر عن الشوق الذي يوسوس به الشيطان واستمر في هذا الحال وبعد حين.. وبعد ان انجزا العتاب بينهما.. قالت له:
اتدري ان لذة خارج البيت الآن؟
سألها باستغراب:
الى اين ذهبت؟ وفي ظنه انها خرجت من بيت ابيها.
قالت له: لا، انا لا قصد خارج بيتنا، وانما جاءت معي.. وهي الآن في الخارج قريبة من بيتك، بانتظاري، لتعود معي عندما اخرج منك..
ولماذا لم تقولي ذلك؟ ايجوز ان تكون خارج البيت في هذا الجو البارد؟ قال ذلك كأنه اراد ان يتظاهر بالحرص عليها اكثر من امها..
قالت وهي تسحبه اليها:
لا عليك، اتركها فانها تتحمل البرد، وتعال الي..
ولكنه قال لها بحزم:
كيف يا أم لذة؟ كيف تقبلين هذا لنفسك؟ وكيف تقبلين علي ان يكون ضيفي خارج بيتي..!؟
قال كل هذا بصورة مفتعلة، لانه ليس جزءا من عادته المعروفة، ثم اردف ليقول، وهو يلبس ثوبه ويسحب فروته المرمية على الفراش: هاك خذي (الشف) (1) بدلا عنها وسوف اذهب بالفروة الى لذة لادثرها بها، ان لم تقبل الدخول الى (الربعة)، اما انت فلا تلحقي بي، لانني عائد اليك..
لا بأس، لكن لا تتأخر.
خرج حسقيل ووجد لذة جالسة القرفصاء امام (مقادم) بيت الشعر.
سلم عليها، واقترب منها ليضع عليها الفروة..
قالت له:
اشكرك، لا احتاجها.
ورغم انه كرر ذلك عدة مرات، فقد رفضت ذلك..
سألها:
لماذا؟
قالت وهي تضحك بما يشبه الغنج او هكذا ارادت ان توحي له:
يقال ان في فروتك الكثير من القمل، لانك لا تغتسل! ثم قالت بليونة:
حسقيل! ها..
لماذا لا تغتسل؟ اذا لم يكن لديك (شنان) لدينا الكثير منه وبامكاني ان اتيك به غدا، لو اردت او ابعثه اليك بيد واحدة من العبيد..
قال بشوق: بل تأتين به بدلا من العبدة..
لا بأس، وفي نفس الوقت، انا بحاجة الى قلادة ورغم انني كلفت امي بان تختارها، فانني افضل ان اتيك غدا لاختارها بنفسي، خاصة ان الاختيار في النهار غيره في الليل.. وارجو ان تقول لوالدتي ان ترجئ موضوع القلادة الى الغد..
وضع حسقيل يده على عينيه، ناقلا اياها من العين اليمنى الى العين اليسرى:
بعيني هاتين.. وسوف اضع فروتي هذه على مقربة من فوهة تنور، وبعد ان اجد ان النار قد ضايقت القمل ودوخته، سوف انفضها للتخلص من القمل، وبعدها اضعها في الشمس اذا صادف ان يكون يوم غد مشمسا.. وعندها ستجدينني انا وفروتي في احسن حال.. قال ذلك تملقا بصورة مكشوفة.
وفي الوقت الذي كان شعاع السراج يتسرب اليهما ضعيفا من داخل بيت الشعر، كان كل منهما لا يرى من وجه صاحبه الا شيئا من بريق العينين.
سمعا صوت أم لذة تنادي:
حسقيل! قالت لذة:
اتركني، يا حسقيل، واذهب اليها.
لاحظ حسقيل انها قالت (اذهب اليها) ولم تقل (اذهب الى أمي)..
وهل تستحق هذه الداعرة صفة الأم من ابنتها؟ أليست حالة داعرة، بصورة مشددة، ان تكون الأم على هذا الوصف في علاقتها بأجنبي، وعلى معرفة من ابنتها؟ ان حالها يستحق هذا الوصف لانها تمارس الحالة الداعرة امام ابنتها!! قال حسقيل للذة، بعد ان امسك بمقدمة لحيته من الحنك:
اعمليها (لخاطري) وادخلي البيت من جهة الربعة، وسأكون معها من جهة (الحرم).. قال ذلك كأنه اراد ان يشوقها الى ما يضمره ازاءها، وما يمكن ان تتهيأ عليه نفسها، عندما تحس بهما وهما في حال السوء وتسمع صوتيهما.
قالت البنت:
لا بأس، ونهضت من مكانها ودخلت القسم المخصص للرجال من البيت، بينما دخل الى حيث زوجة الشيخ، امها، لا يفصل بينهم سوى رواق من الصوف.. ممزوج بغزول شعر الماعز، يردفه حصير محاك من قصب الزل او البردي.. وبعد ان استدار حسقيل الى الشيخة، سألته:
ها، ماذا فعلت!؟..
لم افعل شيئا..
على اي حال، ان ما اردته وما طلبته مني فعلته، وعليك الباقي، رغم انني غير مقتنعة به تماما، اضافت (تماما) كأنها ارادت ان تخفف على حسقيل وقع انها لم تكن مقتنعة بالفكرة لكي لا يزعل منها.. وقد لاحظ حسقيل ذلك..
المهم ان تساعديني في ذلك..
قالت مستفسرة:
كيف!؟
انت تعرفين كيف.. وفي كل الاحوال، تذكري ما اقنعك في وضيفي اليه ما اكتشفته في بعد المعاشرة.. قال ذلك وهو يضحك.
اجابته وهي تضحك ايضا:
يا غبي، ان شعور البنت التي لم تجرب رجلا غير شعور المرأة التي جربت الرجل، ثم اتدري يا حسقيل، انني ربما لم اخترك، لو اتيح امامي غير الرعاة ممن يدخل الينا وندخل اليه من غير ان نتهم من القبيلة ابتداء؟ الا تختار غير المقتنعة بزوجها او زوجة شيخ مثلي، لمعاشرتها من لا يلفت الانتباه، ومن يظنه الناس مستبعدا عن الظن!؟.. وعلى هذا فقد لا ترى لذة ضالتها فيك..
قال حسقيل:
لكن الانسان ابن محيطه والصغير يتبع الكبير وعندما ترى معاشرتنا بعينها، قد يغريها هذا.. كما انها شابة ولم يبق في الديار الا كبار السن من الرجال او الذين لا يجيدون استخدام السلاح.. وكل هذا قد يغير نظرتها واعود لاقول ان الاهم هو ان تحكي لها جانبا من تفاصيل علاقتنا، لتشويقها.. ان بعض البنات والاولاد يسعون في هذه السن لتجربة ما لم يجربوه، لو زل بهم الشيطان من باب حب الاطلاع او اقناع الذات بانهم صاروا في حال كامل..
وعندما لاحظ حسقيل انه قال (لو زل بهم الشيطان).. استدرك ليقول:
انه لأمر طبيعي، كما علاقة النعاج بالكباش عندما تكبر النعاج.. هنا علقت أم لذة لتقول له:
الحق معك في هذا التشبيه، بل الاصح ان تقول: كما علاقة العنزة بالتيس، لينطبق التشبيه علي وعليك فحسب..
ثم اردفت:
النساء لسن كلهن مثلي، يا حسقيل، والبنات لسن كلهن وفق ما تتمنى، وفي كل الاحوال، يعتمد الامر على مستوى الحصانة الذاتية والخوف من العقاب.. قالت الجملة الاخيرة كأنها ارادت ان تقرع نفسها، او هي فلتة لسان ما ارادتها ان تكون، لكن ما يخرج من اللسان يصعب لمه..
عاد حسقيل ليقول:
اعول على ان تحكي لها تفاصيل علاقتنا بما يشوقها، وربما نسمعها شيئا عندما تأتي لتجلس هنا في البيت، خلف الستارة.. وفي كل الاحوال، لا اظن انها تخشى عقوبة الشيخ، ذلك لانني اعرف ان هذا الشيخ غالبا ما (يشوف بعينه ويغطي بذيله)..
قالت أم لذة، بعد ان ضربته بقفا يدها على وجهه:
يا غبي، الشيخ ليس هو المهم، انما عمامه.. القبيلة كبيرة يا غبي، واذا أمنا عقاب الشيخ، فمن يعطينا ضمانة بان نأمن عقاب القبيلة وشيوخ آخرين فيها غيره!؟
على اي حال، سوف اعاونك، فعاونيني لنكون بعد ذلك مطمئنين كلنا.. ثم تساءل بخبث:
هل كل الشيوخ مثل ابي لذة؟
قالت له:
لا، ليسوا كلهم، انما القسم الذي يكون مثله فهو مثله.. لاحظ مثلا شيخ القبيلة المختارة، فرغم انه خصمنا، لكن كل ما نسمعه عنه طيب، وبالمناسبة قالت انا لست مقتنعة بضرورة ان تغزوه قبيلتنا ولا ارى لذلك سببا سوى الغيرة التي في قلب شيخنا ازاء شيخ القبيلة المختارة وقد زدتها انت ولا اعرف لذلك سببا غير ان الطمع المشترك جمعكما وربما كان هناك ما هو اضافي لا اعرفه..
ضحك حسقيل.. وقال بنشوة:
هل تقبلونني شيخا عليكم لو قتل الشيخ في هذه الغزوة؟
ورغم انها قالت: (ابعد الله الشر عنه)، فقد لاحظ حسقيل انها لم تقل ما قالته بحماسة، انها لم تقله بورع، في كل الاحوال..
وقال:
انه محض تساؤل، فأنا ايضا اتمنى له العودة سالما..
على اي حال، لا داعي لتستبق الاحداث.
قالت ذلك وهي ترتدي ملابسها وتقول:
لقد تأخرنا.. وربما (رص) البرد ضلوع لذة.. كأنها ارادت بقولها الاخير ان لا تسد الباب عن مواصلة الحديث في الفكرة او في الاقل التأمل فيها..
في اليوم التالي جاءته لذة، بعد ان قالت لامها انها ذاهبة الى حسقيل لتختار قلادة، وفق ما اشارت الى ذلك في الليلة الماضية، وقد لاحظت امها انها قالت ذلك، في الوقت الذي كانت امها منشغلة بعدد من (شيخات) القبيلة اللائي جئن لزيارتها، وعندما لاحظت ان ابنتها مصرة على الذهاب، وانها لن تنتظرها.. قالت لها:
خذي معك العبدة فلانة.
بل العبدة فلانة، قالت لذة، وقصدت ان تأخذ العبدة التي كان عمرها لا يزيد عن عشر سنين، بينما ارادت زوجة الشيخ من ابنتها لذة ان تأخذ ام العبدة الصغيرة.
عرفت الأم قصد ابنتها عندما اختارت العبدة الصغيرة، او هكذا تصورت، ومع ذلك لم تستطع ان تجادل ابنتها، او تمنعها بسبب وجود ضيوفها.. لكنها قالت في نفسها: لماذا أمنعها مما رأتني فيه؟.. وعندما تقول: اذا كانت ابنتي لم تمنعني مما قمت به لانها غير قادرة على ان تقوم بهذا علي، أليس من واجبي ان أمنعها عن عمل اميزه عقليا بأنه خاطئ ومنحرف ومشين، بغض النظر عن نوع مشاعري الشخصية ازاء ما هو مثله لو تعلق الامر بي؟ وهل يكون تورط ابنتي كأنه في حكم الحال الحتمية، لانني تورطت؟ ثم تعاود، بعد ان انشغلت عن ضيوفها بأمر كأنها تتابعه، مع انها في حقيقة الامر لم تفعل الا متابعة تساؤلاتها مع نفسها: ولكن ماذا يحصل، كرد فعل من حسقيل، لو منعتها عنه؟ ترى الا يعاقبني؟ وماذا لو هجرني؟ الا تكون حالي حال من يجرد من ملابسه ممن يسلبها منه، ولا يدافع عن نفسه وعن ملابسه، ويولي هاربا وهو يقول لمن سلبوه ملابسه: اراهن على انكم غير قادرين على اللحاق بي فيضحكون عليه، ويقولون له: لم يبق لديك ما يغرينا على الركض وراءك.. فاذهب راشدا.!؟ ثم تعود لتقول: سأخسر المتعة، بعد ان خسرت الشرف.
وبعدها تقول: أليس الافضل ان اقبل بهذا الاحتمال لاحافظ على السمعة، حتى رغم علمي بأن شرفي قد ضاع؟ أليست السمعة المعروفة بقياسات حسنة في الشكل العام غطاء للشرف المهدور، من غير ان يعرف صاحبه ويسمى عليه؟ وعندما لا يعرف احد انه قد هدر.. أليس الافضل ان احافظ على شرف ابنتي وسمعتها، واحافظ على سمعتي بين الناس، رغم انني اعرف ان شرفي قد هدر، وان حسقيل وابنتي يعرفان هذا؟ ثم تظهر مترددة امام نفسها، لا تعرف اي قرار تتخذ.. ومع ذلك تقول: لأترك هذه الهواجس الآن، ريثما تعود لذة.. ولكن ما ادراني، فقد يتمكن حسقيل منها في هذه الزيارة!! ثم تقول: كان علي ان اصر على ان ترافقها العبدة الكبيرة.. وعندها تعلق: وماذا يمكن ان يفعله مملوك غير ان يغطي على عيوب سيده؟ وحتى لو اوصيها بما اوصيها به.. هل تستطيع ان تمنعها عندما تريد؟ ثم تعود لتقول: لن تستطيع ذلك، لانها في الاقل لن تنسى انها عبدة، وان ابناءها عبيد، وحتى لو ماتت سيبقون عبيدا للشيخ، وانها عند ذلك ستحسب الحساب حتى لعلاقة ابنائها مع لذة، لو صارت في يوم من الايام بموقع الشيخة الذي انا عليه، لذلك حتى لو ذهبت العبدة الكبيرة معها، لن تستطيع ان تفعل شيئا امام رغبة حسقيل وضعف لذة. ثم تعاود القول: اذا كنت، انا كبيرتهم لم اصمد امام شراك والاعيب حسقيل، فكيف يمكن ان تصمد ابنة غرة امامه، بعد ان بدأت قبلها طريق الانحراف، ووصلت الى حضيضه؟ ثم تنهمر دموعها، وبعد ان تكفكفها تبدو كالمحطمة، وعندما تعود الى نساء القبيلة، ويلاحظن انها بكت يهون عليها بقولهن:
لا تبكي، ان فلانا ويقصدن شيخ القبيلة سيعود هو واصحابه وقد غنموا مالا كثيرا، بعد ان يقهروا القبيلة المختارة.. وفي ظنهن انها كانت تبكي تنفيسا لحسرة في صدرها على غياب زوجها.
عندها تبتسم وتقول:
لا عليكن، ان شؤون الدنيا كثيرة، والوانها متعددة.



***



ذهبت لذة الى بيت حسقيل، ووجدت انه اعد نفسه بانتظارها ودخلت ومعها شنان وضعته في صرة.
تناول حسقيل الشنان، وشكرها عليه، ثم اندفع بصورة مرتبكة، وانتزع فروته من على القاطع بين مكان الرجال حيث جلست العبدة الصغيرة، وفق ما امرتها سيدتها، ومكان الحريم حيث يقفان حسقيل ولذة وقال لها وهو يفتح الفروة ليريها اياها:
الآن هي خالية من القمل.. لقد نفضتها فوق نار التنور، وابقيتها طيلة النهار مفتوحة ومنشورة، تضربها الشمس على الحبل الوسط لبيت الشعر.. انظري هنا حيث ظهر الفروة من الداخل.. وانظري هنا تحت الابط والاكمام.. انها خالية من القمل تماما، وسوف اغتسل بالشنان الذي جئتني به وفق ما امرتني.
كان حسقيل يقول ذلك بارتباك واضح، وبدا كأنه مهووس.. ثم فتح صندوق الخشب الكبير الموضوع في صدر البيت، اقرب ما يكون الى قاطع وسط البيت او ملاصقا له.. وقال: هذا الصندوق وما فيه من ذهب وانا في خدمتك، فخذي اي شيء مما فيه، واتركي ما تشائين.
كان الصندوق مصنوعا من الخشب الهندي، ومزخرفا بزخرفة الهند، تتوسط الطبقة العلوية من الصندوق قطعة حديد تتعشق مع نتوء من الحديد مثبت في وسط الصندوق في القسم الاسفل منه، وعندما يتعشقان مع بعضهما ويربطان بقفل، يكون الصندوق مقفولا في الوقت الذي ثبتت على غطائه الاعلى من الداخل مرآة يحلق لحيته امامها، او يرى شكله بها، هو ومن تشتري منه الذهب.. وكان هذا الصندوق مثل او قريبا من الصناديق التي كانت جداتنا وامهاتنا قبل سبعين او مائة عام، يضعن ملابسهن فيه، ويضعن معها صابونة افرنجي (ام الريحة)، وفق ماكن يسمينها، لتتعطر بها ملابسهن، ويبعدن العث عنها بصورة او بأخرى.
فتح حسقيل الصندوق وعرض ما فيه من ذهب.. وتناولت لذة قلادة منه، وعندما ثبتتها لصيق رقبتها من غير ان تربطها، قالت لحسقيل بغنج، ومن غير ان تستدير ناحيته، حيث كان يقف خلفها قريبا منها:
حسقيل، هل تعجبك هذه!؟
اصفر وجه حسقيل، واضطربت شفتاه، وصار بالكاد يبلع ريقه، وهو يقول (فديلك).. كل شيء تلبسينه يصير حلوا.
اقترب حسقيل منها اكثر وهو يقول: هل اربط لك القلادة؟ لكنه قالها هذه المرة بثقة اكبر رغم انه لم يتخلص من اضطرابه، مع انه هذه المرة لم يكن اضطراب تحسب من النوع الذي يسبق المحاولة، ولا تعرف على وجه اليقين عواقبها، ورد فعل المرأة عليها، وانما اضطراب الرغبة الجامحة التي اجتاحته حين قالت له «حسقيل هل تعجبك!؟».
ألا يكفي الرجل هذا كاشارة دالة على رغبة المرأة فيه، او ايهامه بهذا، في الاقل؟ بل هل ينتظر رجل غريب من امرأة ما هو اوضح من هذا ليعرف رغبتها فيه، او يتوهم في ذلك، وبخاصة عندما ينفردان في مكان واحد؟
كرر حسقيل تساؤله:
هل اربط لك القلادة من الخلف؟
نعم، لو سمحت.. ورفعت طرف ملفعها المتدلي على ظهرها من الخلف، واظهرت له رقبتها، ثم انحنت برأسها للامام قليلا، في الوقت الذي ابقت يديها مرتفعتين ممسكتين بطرفي القلادة وهي تشير اليه ان امسك بطرفي القلادة مني.
وجد حسقيل فرصته ليقترب منها، منها الحد الذي اقترب جسمه من جسمها من الخلف، حتى كاد يلتصق بها، ولكن يديه كادتا، وهو يفعل ذلك، تعجزان من شدة ارتعاشهما عن الاحتفاظ بالقلادة من طرفيها، بل تعذر عليه ان يعقد طرفي القلادة..
حسقيل، ماذا حصل لك؟
صبرك علي، يا من فداك روح حسقيل.. قالها ايضا بصورة متلجلجة من شدة ارتعاشه، ولكن ما ان استدارت بوجهها اليه، حتى حاول ان يلثمها، فدفعته بقوة عنها، وخرجت والقلادة بيدها بعد ان قالت له:
اذا كنت لا تستطيع ربطها، اتركها لي سوف احاول ربطها.
بل استطيع ربطها!! ان صبرك علي كان قليلا..
قالت جوابا على ما غمزها به:
ولكن صبرك قليل ايضا.. اترك هذا الآن حتى اعتاد عليك، اترك هذا، لئلا اتأخر عن والدتي التي تنتظرني في بيتنا، وسوف آتيك مساء اليوم، بعد ان تغتسل... ولا تضع الفروة على جسمك حتى تغتسل تماما بالشنان الذي جئتك به.
قال حسقيل وهي تهم بأن تخرج من البيت: ولكن، ماذا عن والدتك..
سأقول لها ان هذه الليلة ليلتي.. او اجد العذر الذي يصلح غطاء.. الا يعجبك ذلك؟
ثم عادت لتقول مع نفسها: وهل يعجز من يقرر، ويقدم على انحراف او غطاء، او حتى ذريعة لفعله!؟
بل اموت في ما تقولينه، وروحي (فداك).
عندما مرت هي وحسقيل على عبدتها الصغيرة وجداها لمت جسمها، وضمت ركبتيها الى بطنها، لتتقي برد آذار في بلاد الشام ونامت فوق برذعة حمار، بعد ان لمت يديها ايضا، ووضعتهما بين فخذيها، ذلك ان الانسان كلما قلص المساحة السطحية لجسمه صار البرد اقل عليه..



***



خرجت لذة وعبدتها الصغيرة تمشي خلفها.. كان ربيع آذار (يدفن) قدميها، وهي تسير باتجاه بيتها.. وثغاء البهائم الصغيرة يأتي من كل بيت شعر في اشارة الى حاجتها الى امهاتها في الوقت الذي كانت الحمير ومنها حمار حسقيل، تنهق كعلامة على رغبتها في ان تقوم بدورها الطبيعي في ادامة الحياة، بعد ان تخلصت من برد الشتاء وجوعه.
بينما كانت لذة تمشي مختالة وهي تردد مع نفسها: يا كلب، وتقصد بذلك حسقيل، سوف اكشف كل غاطسك وأعلمك ان بنات العرب غير بنات العجم. وقد غمزت في هذا من امها باعتبارها لم تكن من أعمامهم وإنما هي أعجمية.. وبينما هي تسير في الربيع باتجاه بيتهم.. انزلقت احدى قدميها في حفرة عميقة نسبيا، لم تكن قد تبينتها بسبب كثافة العشب، ووجود احجار قريبة منها، فالتوت ساقها، وكسرت قدمها من الكاحل، وبعد عدة صيحات ألم، أغمي عليها في المكان ولم تفق إلا بعد أن نقلتها أمها بمساعدة نساء الحي إلى البيت.

* هامش:

1- نبات كان هو الوسيلة الأساسية لاغتسال البدو والحضر.. بعد أن يطحن أو ينقع.. ثم يغتسل به وبمائه.. ويقابل الصابون في عصرنا.

__________________________________________________ __________

>>>> الرد الرابع :
أخرج منها يا ملعون

عندما تنكسر الجيوش والجماعات يكثر تبادل الاتهامات واللوم والتعنيف

الجزء ( 5 )




حسقيل؟ سألت لذة..
نعم.. أجاب حسقيل..
لماذا امتهنت الحدادة ومن بعدها صياغة الفضة والذهب الآن؟
وأي مهنة تريدينني أن امتهنها غير هذه المهنة.. أأرعى الأغنام أم الجمال أم ماذا؟
فقاطعته قائلة:
بل تمتلك الخيول والجمال والأغنام والبغال وهناك من يرعاها لك.. على حد علمي، فإن جدك كبير قومه، صار بعد الدعوة التي يتحدث عنها وبعد أن أمن بها كثير من الناس، كأنه كبير كل الأقوام، بفضل حكمته وورعه وعدله.
لم أشأ ان املك الخيول والبغال والجمال والغنم.. ان عبئها كبير وقيمتها أقل من الذهب، قال حسقيل.
لكنها، هي والزراعة، القياس العام للثروة في حياة الناس الآن.. وقلة ضئيلة، بل بعض النساء فقط هن اللائي يجرين خلف ملكية الذهب والفضة.. أجابته لذة. وما أدراني، يا لذة، لو ملكت الخيول والأغنام والإبل.. ربما كنت الآن قد مت قتلا، حيث سيطمع الناس في ما أملك؟
ولكنك الآن تمتلك الذهب والفضة ولم تمت قتيلا..
نعم، الآن املك الذهب والفضة.. ولا أحد يغزوني.. لان الصائغ لا يكون علم قومه، رغم قيمة ما يملك، إنما شيخ العشيرة.. ثم إن العرب لا يغزون أصحاب الحرف، ويعتبرونهم ضعفاء ولا يشاركون قومهم في غزو، إنما يصنعون لهم عدة الغزو مثلما افعل الآن ونمارس الغزو بطريق آخر.. نحن نستولي على ملكية الآخرين برضاهم.. بل برغبتهم مع رضاهم من غير ان يسيل دمنا.
وكيف؟! نبيعهم ونستولي على ما في جيوبهم.
ولكنك الآن، تتمنطق بسيف وخنجر.
نعم، اتمنطق بسيف وخنجر، لكي اشعر الآخرين بضرورته في الحياة.. ولكي اناول أيا منهما لمن يتشاجر قربي، اذا كان سيفه او خنجره بعيدين عنه في اللحظة التي يقرر ان يجعل الدم يسيل من صاحبه.
ولكنك، على هذا تكون شريكا في الجريمة امام الله، على وفق مبادئ جدك ابراهيم، وعلى وفق مبادئ محمود ويوسف من بعده.. قالت لذة.
ولكن ليس على مبادئ شريعتي وما أؤمن به، بل لا يهمني حتى أن أكون شريكا في الجريمة على وفق ما أشرت إليه، وإنما أن يرتكبها غيري بيده، من غير ان ارتكبها بيدي.. الا لو اضطررت اضطرارا لكي لا تكون لي عداوات شخصية مباشرة تؤثر سلبيا على تجارتي بالحلي والسيوف والخناجر والرماح والنبال، لكن كلما ساد الوئام بين الناس، افتعلت بينهم ما يشغلهم ببعضهم ويوفر لي فرصة افضل في جني الارباح.
ولكن، لو ساد الوئام بين الناس واستقرت نفوسهم على الأمن والسلام، لاشترت النساء منك ذهبا وفضة اكثر، بعد ان يوفر الرجال ما يملكون، ولا يصرفونه على الرماح والخناجر والسيوف والنبال.
عند ذلك سأربح من بضاعة واحدة، وعندها سيكون ربحي منها، مهما بلغ، اقل مما لو تعددت وتنوعت مصادره.. ثم ان الاستقرار قد يجعل لي منافسين آخرين كثرا في مهنتي، بينما يشغلهم القتال فيما بينهم بتنمية عوامل الفرقة والغدر والثأر، وعلى هذا الاساس اشجع الغزو، لكن لا اشارك فيه مباشرة، انما بصورة غير مباشرة واشجع الاحتراب بين الناس بسيوفي واروج لحسن صفاتها، لكن لا أستخدم سيفي بصورة مباشرة الا مضطرا..
وعلى هذا الاساس افسر سبب عدم مشاركتك ابي في الغزو.
لا.. ليس لهذا السبب وحده، انما لأسباب أخرى أيضا، لا مجال لان اقولها لك الآن يا لذة.. لاسباب اخرى.. كرر الجملة الاخيرة، وسكت.

عاد شيخ القبيلة المضطرة بمفرده اولا، وجاء بعده من نجا من الاسر او الموت.. وكانوا يصلون في غير انتظام وبمعنويات محطمة تماما مثل جيش ينكسر، ليس بسبب تفوق عدوه عليه في الكثرة او السلاح، انما في الروح المعنوية ويتضاعف الشعور الذي يخزي النفس، اذا كان الجيش المكسور بلا هدف مشرف استدعاه للقتال او ان يكون الاعتداء منه على غيره واضحا وبينا، فكيف اذا كان شيخ القبيلة، مع هذا كله، اول من دعا الى الغزو والعدوان واول من هرب من المعركة من غير ان يجرب سيفه؟! لقد انطبق كل ما في هذه المفارقات من سلبيات، وما يخزي اهلها ويضعفهم، على حال شيخ القبيلة المضطرة اولا، وعلى الهاربين معه من ساحة المعركة.. جاءوا مكسورين نفسيا، بل محطمين تماما.. ومثلما هو معروف في الظروف التي تنكسر فيها الجيوش والزمر والمجموعات، يكثر تبادل الاتهامات واللوم والتعنيف والتنصل من كل واي شيء كان سببا في الهزيمة، لكن الجمرات المحرقة وكل ما هو مخز كان يرمى بها على شيخ القبيلة المضطرة.. أليس الاسم العالي بيرقا لجماعته في المواقف المشرفة والاسم البين والاظهر في الشهرة من غير تاريخ مشرف، مزبلة للنفايات اذا اخزى نفسه وجماعته في المواقف؟ وهل هناك ما هو اخزى من ان ينهزم القائد او اي عنوان متقدم ويترك جماعته نهبا لاسلحة العدو؟ وهل يستحق، بعد ذلك صفة القيادة؟ او بالاحرى هل يستحق غير ان يرجم ويجلل بالعار؟

وجد حسقيل والبطانة التي كونها قبل وفي غياب الشيخ وفرسان القبيلة، ضالتهم في هذه الهزيمة وصاروا بعد ان جمعوا المعلومات التفصيلية عن سير الاحداث وطبيعة المواقف، يمعنون تجريحا او يوسعون جراح من اصابه مشرط الحقيقة على موقفه، فأصابت سهامهم شيخ القبيلة بوصفه الهدف الاسهل لان يصاب.. كان حسقيل يقول، وهو يحدث شيخ القبيلة:
لقد استعجلت في الهجوم، سلمك الله، بخلاف ما اوصيتك ونصحتك به، فقد قلت لك: جاور خصمك واستطلعه واتخذ عليه حجة، عند وقوع خصمك في اي خطأ تجاهكم او ان تفتعل ما يجعلك تصوره خطأ وتحرشا منه بكم لتقيموا عليه الحجة وتضعفوا موقفه في علاقته مع جمعه وقد فعلت العكس، حيث اقام عليك الحجة امام جماعتك.. وفي الوقت الذي قاتل في مقدمة جمعه، هربت، كما علمنا، قبل ان تجرب سيفك.

ثم يعود حسقيل ليقول بخبث:
يا جماعة، لقد امضيت في صناعة سيف طويل العمر وقتا اطول بكثير مما امضيته في صناعة سيوف الآخرين الذين قاتلوا.. بأمل ان يفي طويل العمر حق السيف وصنعته وكان اثمن عشرة سيوف مماثلة او اكثر لكثرة ما حوى من جواهر رصعت بها قبضته ليدل على عنوان صاحبه..
ثم يلتفت الى الشيخ، ويقول:
لقد اوصيتك بأن لا تهاجم الا وفق تدبير تعده سلفا وان توزع الواجبات الى حد الرجل الواحد، حيث يعرف واجبه، لكنك هاجمت عدوك من غير خطة.. وأوصيتك بان تهاجم في ظلام، حتى لو جاء هجومك آخر الليل، فلليل ثقله على أهله إذا ما اقترنت معه المباغتة والتدبير.. ولكنك هاجمت عدوك بعد طلوع الشمس، وبعد ان انهكك وانهك فرسان القبيلة سهر الليل، واحتساء الخمر مع الغجر ثم يقول حسقيل ويكرر كلامه أقول لك يا شيخ: الصحيح ان فرسان قبيلتنا رجال طيبون وفرسان جيدون لو كان الرأس فيهم شجاعا ومدبرا.. قائلا هذه المرة (فرسان قبيلتنا) بدلا من (فرسان قبيلتك)، وكأنه منهم نسبا، وموقفا وشعورا وليس رغبة في إنجاح خطته وتوفير الغطاء لها فحسب.. فعل ذلك ليكون كلامه مؤثرا برجال العشيرة تماما، ولكي ينتقل كلامه من الرجال الى النساء عندما يحكون لهن.



***



استغل حسقيل الفرصة ليحطم شيخ القبيلة وفق تدبير مسبق، ليكون هو شيخها وفق ما فعل في وطننا العربي الكبير بعض الأعاجم الذين لم ينسبوا انفسهم الى بطون العرب المعروفة، وإنما حتى الى ساداتهم، لولا حماية الله لشجرة آل البيت.
كان حسقيل قد اتفق مع الشيخة على الكثير مما يضمره، بما في ذلك ان يحل شيخا محل شيخ القبيلة المضطرة، واعدا اياها بالزواج بعد ذلك، لتقوم هي بدورها بين النساء، بينما يقوم هو وشبكته بما يقومون به بين الرجال.. ولقد اتفق معها، بعد ان سمعوا بالهزيمة (الكسيرة) التي حلت بالقبيلة، وهروب الشيخ من ساحة المعركة، على ان يقيم فور وصول الشيخ مأدبة كبيرة في بيت الشيخ على نفقة حسقيل، ويدعو لها كل من في العشيرة من الرجال تحت غطاء تكريم من وصلوا بسلامة، وفي مقدمتهم الشيخ، وأوصى الشيخة بأن تقيم مثلها للنساء لتقوم بما يقوم به مع الرجال، مع تكييف كل حالة وفق جنس مستمعيها..
كان رجال القبيلة ينصتون الى حسقيل وهو يتكلم، ووجد كل منهم غطاءه في هزيمته، بعد ان انصب لوم وتجريح حسقيل على شيخ المضطرة فحسب، أو وجد أولئك الذين اصابهم جرح نازف بموت ابنائهم، أو ذويهم، أو اسر الآخرين، متكأ ليحاسبوا شيخ القبيلة، وهكذا اقترح احدهم ان يعودوا، بإشراف حسقيل، ليجتمعوا في بيت حسقيل، وعندما قال احدهم ان بيت حسقيل لا يستوعب العدد، قال حسقيل:
بل يستوعب.. وانا منذ الغد سأشتري بيتا كبيرا يستوعب رجال العشيرة من أهل الحل والعقد، بالاضافة الى فرسانها، ثم اننا الآن في بداية شهر نيسان، وليس في شهر نيسان برد مفاجئ، ولذلك تصلح هذه الارض كلها مضيفا للفرش وموائد الطعام، ثم قال:
ابشروا، ابشروا، يا أعمامي، إي، نعم في بيتي، في بيت ابن أخيكم، والقلب أوسع لكم محبة وضيافة، تردفه العيون، يا ولد العم، يا اهلا وسهلا بكم.
قال أحدهم:
نعم، نجتمع في بيت حسقيل، بعد أن نعرف من سيأتي إلينا حيا بعدنا، ونتعرف تفصيليا على من مات، أو وقع في الأسر.
قال ابن شيخ قتل أبوه في المعركة:
بل نلتقي بعد أسبوع من الآن، لكي لا يبقى هذا الموضوع معلقا، وتبقى القبيلة من غير شيخ.
قال شيخ القبيلة المضطرة، بعد ان كان يستمع اليهم مطرقا:
اتقول، يا ولد، ان القبيلة من غير شيخ، كأنك تقرر ذلك؟. وهم بأن ينهض ليضربه، لولا ان اجلسه حسقيل في مكانه..
وعاد ابن الشيخ يقول..

نعم، ان القبيلة من غير شيخ، لأن من لا يقاتل مع القبيلة، ويحمي من يحتمي بسيفه، لا يصلح ان يكون شيخا على القبيلة، وبدلا من ان تهم بأن تضربني، كان يفترض بك ان تضرب عدونا.. أم ان همتك لا تكتشف، ولا تستخدم، الا على ابناء جلدتك؟
وأراد ان يسترسل بعد ان غير جلسته، ليكون في وضعية طوى بها رجليه تحته، واتكأ على ركبتيه وسيفه في حضنه، كأنه يتأهب ليفعل شيئا، لولا ان حجز حسقيل بينهما، بعد ان اجلس الشيخ في مكانه، وأشار بيده إلى ابن الشيخ الآخر ليسكت، فسكت..
عاد ابن الشيخ ليقول:

بعد أسبوع من الآن في بيت حسقيل.
نبهه احدهم الى ان ذلك اليوم سيكون يوم سبت، فقال:
بعد ستة ايام من الآن نكون على الغداء في بيت حسقيل، لنناقش أمورنا ونتخذ تدابيرنا، ومن لا يوافق يرفع يده.. ولم يرفع أحد يده غير الشيخ.. رفع يده كأنه سلم ضمنا بأن من يدير جلسة القبيلة هو ابن ذلك الشيخ بإشراف من حسقيل.. وبذلك انفضوا بأمل ان يلتقوا بعد ستة أيام على الغداء في بيت حسقيل.



***



كانت زوجة شيخ القبيلة المضطرة قد استغلت تقليدا عند نساء العرب هو أن يقسمن بأن لا يستقبلن الرجال في مخادعهن عندما يكونون، فرادى أو جماعات، في موقف غير مشرف، ولذلك التقت بنساء القبيلة، وحرضتهن على أزواجهن ليهجرنهم في المخادع، وأعلنت أنها لن تستقبل زوجها في مخدعها منذ ذلك اليوم، وأنها ستطرده من البيت الكبير إلى بيت يبنونه له بعيدا عن البيت الكبير، ليكون فيه ريثما تقرر القبيلة مصيره، فإن جردته القبيلة من صفة المشيخة، طردته نهائيا من حياتها، وقالت: «هذا هو عهدي امامكن».

أثار قرار الشيخة حماس النسوة، لأنهن لم يكن يعرفن نواياها الحقيقية، وفي كل الأحوال، كان قرار الامتناع عن قبول الرجال في المخادع تقليدا للعربيات في علاقتهن بأزواجهن إن أصابهم ما ينتقصهم.. ولأن صفة النقيصة تنطبق على من يهرب من جبهات القتال، فقد انطبق القانون على أولئك الهاربين من المعركة، وهو إجراء يحض على الموقف العالي، والتصرف الذي يستلزم التضحية من الرجال حتما، وقد اتخذنه فعلا.. ولكن زوجة الشيخ استغلت ذلك لمآربها.. فهل يمكن أن يعاب تقليد أصيل، يقوي ويعمق جذور الجماعة، وثوابتها الأصيلة، بما يعز قومها، حتى لو استغل هذا ضعيف نفس هنا أو هناك لمآرب خاصة!؟ ان العيب لا يكون في استغلال التقليد الاصيل والتمسك به من أهله، حتى لو استغل من قلة باتجاهات غير الاتجاهات الصحيحة، وعكسه، التمسك بالتقليد الاصيل، والبناء عليه من غير تفريط أو تساهل فيه بما يسمح بدخول الهواء الفاسد، والفعل الذي يعيب من الثغرات.. وقد طردت الشيخة زوجها، بعد ان عزلته في بيت (مكورن) اي بعمودين بدلا من البيت (المثومن)، اي بثمانية اعمدة.. وصار حسقيل يتصرف في البيت الكبير، ليس بصفة مشرف عليه فحسب، وإنما بصفة صاحب الأمر والنهي، تسنده زوجة الشيخ في كل هذا، وتقف ابنته كأنها في موقف محرج بين حال أبيها وموقف أمها منه، وما جعلها على هذا الحال هو أن موقف أبيها كان غير مشرف بل مخزيا، عدا مجاملتها لحسقيل، الذي عرفت أن هواه مضاد لهوى آبيها، وموقف أمها التي لم تتبين بعد نواياها الخفية لتعرف كيف تتصرف.



***



خلال الأيام الستة التي سبقت اجتماعهم المقرر، عقد حسقيل سلسلة من الاجتماعات واللقاءات في بيته الذي استأجره من اقرب تاجر، بدلا من أن يشتريه، ولكنه كان بيتا كبيرا بستة أعمدة، وليس كبيته القديم ذي العمودين، وكانت شقق البيت الجديدة كلها محاكة حديثا من شعر الماعز، بدلا من ذلك القديم الذي غالبا ما كانت شققه مهترئة.
كان حسقيل يعقد الاجتماعات بصيغة دعوات ينظمها، ويقدم الطعام فيها بسخاء، رغم بخله، بل كأنه في الدعوات التي أقامها، غادر ما هو معروف عنه من بخل ينتقل بالعدوى حتى لمن يجاوره ويتأثر بطباعه.. الا يغطي من لديه غرض سيئ غرضه بما يضحي به، اذا اقتضى الوصول اليه صرف الاموال؟ ثم ان حسقيل، الذي يحسب لكل فلس حسابه، رسم لما بعد الوصول الى هدفه، ان يسترجع الفلس بأضعافه، بل كأنه اراد، وهو يصرف على الدعوات، أو اعد ليكون كل فلس يصرفه مدخلا الى فرصة صممها لتحقيق مآربه.. وكان حسقيل، عندما يحضر الرجال دعوته، يفتح موضوعات ديونه عليهم بصورة غير مباشرة، أو يتفق مع احد افراد الشبكة، رغم انه مدين له، ليقول له:
والله، يا حسقيل، يا طويل العمر، انت تعرف الحال، وان ما حصل لنا كبير، فنرجو ان تضع هذا في اعتبارك، فاصبر علينا بضعة أشهر إضافية، وبعدها نسدد لك الدين مع فوائده.
ويقول حسقيل:
الأمر هين، أنا اعرف الظروف، واعرف كل شيء، وسأتصرف.
ويسكت من غير ان يقطع بشيء حاسم..
ثم يقول آخر:
يا طويل العمر، يا شيخنا..
وعندما يقول (يا شيخنا) تنتفخ اوداج حسقيل فرحا، ويجفل أبناء عمومة الشيخ المهزوم.
ثم يقول حسقيل:
ما زال فلان هو الشيخ، شيخ القبيلة المضطرة، إلا إذا قررتم شيئا جديدا.. فالمهم عندنا أن تتفق القبيلة على من ترى انه صالح لقيادتها.. ثم يردف:
كان الله بعون من يكون شيخا للقبيلة، فهو يحتاج الى مال لكي يطفئ نسبة الفائدة في الأقل نيابة عن المدينين بثمن السلاح، اذا لم اقل نسبة من قيمة ديون السلاح ايضا، ثم ان القبيلة اذا ارادت ان تأخذ بثأرها لما اصابها فهي بحاجة الى مدبر، لا ليعرف كيف يدبر امور القبيلة فحسب، وانما لينشيء تحالفات بعينها مع القبائل القريبة والبعيدة، ومن ذلك قبيلة الروم التي صارت منا وصرنا منها. ثم انه بحاجة لأن يتمعن في الكيفية التي يساعد بها الارامل واليتامى بعد هذه النكبة.. و.. و.

كان حسقيل يقول كل هذا كأنه ينسج صورة لا تنطبق الا عليه، او انه يوحي، ويجعل شبكته تنشط لتروج قول ان مثل هكذا مواصفات تنطبق على حسقيل وحده، حتى ان بعض الشعراء صاروا يصفونه بغير صفاته، وصار البعض الآخر، وهم يتحدثون فيما بينهم عمن (يرهم) يصلح شيخا للقبيلة، يقولون: ان حسقيل منا.. يا اخي، ان القول المأثور (من عاشر القوم اربعين يوما صار منهم) ينطبق على حسقيل، وقد مضى على حسقيل معنا زمن طويل، الا يكفي هذا لأن نجعله منا، أو كأنه منا، لنختبر كفاءته في القيادة؟
ويقول آخر:
ماذا يحصل لو أعطيناه فرصة لنعرف كفاءته ونواياه؟.. وماذا نخسر ان لم يعجبنا؟ يا أخي يقول لمن يعترض فعندها نستبدله بشيخ جديد..
ثم يردف قوله:
الم نختر قبله ذلك الشيخ الفاشل في كل شيء.. فلا هو بكريم، ولا هو بحليم، ولا هو بمقتدر!؟ لماذا لا نعطي حسقيل فرصته؟ ثم ان حسقيل ثري، وهو الذي يصنع لنا السلاح، فماذا نعمل لو طلب منا أداء اثمان الاسلحة مع فائدتها الآن؟ في الوقت الذي يكون عدد كبير منا منشغلا بالتفكير في ما يعمله، وكيف يدبر فدية رقاب الأسرى.
وعندما يسأل آخر:
ولماذا لا نختار ابن عمنا فلانا؟
يقول من يعترض عليه:
وماذا نأمله في ابن عمنا؟ لقد جربنا الشيخ الذي نحن بصدد خلعه، ولم ينفعنا بشيء رغم انه ابن عمنا.. ثم ان حسقيل رتب تحالف القبيلة مع قبيلة الروم الكبيرة، ومن تكون قبيلة الروم معه لا يغلب، عدا انه سيطور الوضع الاقتصادي لقبيلتنا، ويحسن سلاحنا.. ويجعل من يعترض على ولايتنا غير قادر على تغييرنا بعد ان نحظى بوعد، وحماية شيخ قبيلة الروم لنا بأن يقاوم أي رغبة بهذا الاتجاه.
وعندما يتساءل احدهم بالقول:
اذا كانت قبيلة الروم حليفة حسقيل، وستكون حليفتنا، فما هي حاجتنا للأسلحة!؟
يجيبه احد ازلام حسقيل:
لنواجه بها قبائل العرب، اعداء حسقيل، واعداء الروم.

واذ ذاك يتبادل اثنان من الشباب النظر فيما بينهما، ثم ينهضان تاركين مكان النقاش.
وعندما يقول له أحدهم:
كان اختيارنا لأبي لذة خاطئا بالأساس، ثم، الا تتذكر ان القبيلة الفلانية التي غلبتنا فرضته علينا في ذلك الوقت، بعد ان قتل شيخنا ذاك الشهم في المعركة، عندما قالوا لنا أنهم لا يطمئنون على علاقتهم معنا، ولا يقيمون معنا الصلح ما لم نقبل بهذا شيخا، وقد قبلنا به على هذا الأساس، ولم نختره نحن، بل كأنهم قد تعمدوا آنذاك ان يختاروا الاردأ من بين رجال القبيلة، فلنختر واحدا من الفرسان الجيدين من أبناء عمومتنا.. بديلا له، وليس حسقيل..
عندها يصيح به آخر:
دعنا، يا أخي، من تكرار قولك.. أبناء عمومتنا.. أبناء عمومتنا.. لنترك عمومتنا جانبا، ولنجرب اختيار أجنبي، حتى لو لم تعتبروا حسقيل منا، ماذا به حسقيل؟
ثم يصيح عدد من الحضور بصوت واحد ليرهبوا الحاضرين:
بل حسقيل منا..
ويصيح آخرون:
نريد حسقيل شيخا لنا.
ويقول أحدهم ضاحكا:
بل أنا على استعداد لأن أزوجه ابنتي فورا.
ويقول آخر:
وأنا أيضا، أعطيه أختي من غير متأخر الصداق.. يكفيني ما يقدمه لي مقدما بما يجود به! كانت هذه الاتجاهات بوجه عام، وكل ضمن تفاصيل يومه، هي الاتجاهات الأساسية التي كانت تدور حولها اللقاءات التي يجريها حسقيل مع من يحضر إلى بيته.

لاحظ الرجال أنهم ما أن يعودوا إلى بيوتهم حتى يواجهوا تساؤلات ومفردات أحاديث من زوجاتهم، أو أمهاتهم، أو اخواتهم، وكأنهن كن يحضرن الاجتماعات، وقسم كبير منها لصالح حسقيل، مع تمنيات تتعلق بالنساء المعنيات بأن يجود حسقيل على من يجود عليها (بمحبس) خاتم من ذهب أو فضة، أو بسوار، أو قلادة، لو فاز بالمشيخة، وكل منهن ترسم الخيال المناسب لثقل وزنها في القبيلة، أو لمستوى جمالها.. وعلى طرف الرجال المعنيين يمني كل نفسه بما يمكن أن يجود عليه حسقيل، ورضاه عنه بمال أو جاه، أو ما يثبته شيخا على قبيلته، أو يمكنه من كرسي مشيخة يناوئ عليه أباه أو ابن عمه أو أحد شيوخ عشائر القبيلة..

وما أن حان الموعد الذي حددوه، حتى التقى رجال القبيلة في ذلك اليوم، لكن حسقيل، بدلا من جعلهم يلتقون في بيته ذي الأعمدة الستة، فقد جمع شيوخ العشائر التابعين لهذه القبيلة في اليوم الذي سبق يوم اللقاء، ورجاهم أن يكون اللقاء الأول في بيت شيخ المضطرة بوصفه البيت الأكبر.. وأنه سوف يضمن لهم عدم حضوره، لكي لا يقول أهله وأبناء عمه إن اللقاء حصل في بيت حسقيل ذي الأعمدة الستة، بدلا من البيت ذي الأعمدة الثمانية (وبذلك يجدون مدخلا للطعن بقراراتكم).. هكذا قال حسقيل.
ثم أردف قائلا:
ثم ان البيت صار الآن بيت أم لذة، بعد أن طردته منه.
وقال آخر:
يا أخي، إذا كان الاعتراض على عدد أعمدة البيت، لنجعل عدد الأعمدة في بيت حسقيل سبعة بدلا من ستة، لنجعله ذا أعمدة ثمانية، بإضافة عمودين على الأعمدة الستة من غير مقطع اضافي في البيت.
ثم يعترض شاب لم يهرب من المعركة، وقاتل ببسالة:
يا اخوان، ان الموضوع ليس موضوع عدد الأعمدة وإنما الفكرة، هل نلتقي في بيت شيخ العشيرة وتحت إشراف عدد منا، أم نلتقي في بيت حسقيل وتحت إشرافه؟

ثم يقول آخر:
لدي فكرة: لماذا لا نلتقي في بيت شيخ قبيلة الروم، وبذلك نحل الموضوع، ولكي لا نترك لدى أحد حساسية من الذين يتحسسون من حسقيل وبيته..

يعترض أحدهم ليقول:
ليس المهم التسميات، إنما الفكرة، هل نقبل بأن يشرف أجنبي على مناقشاتنا ويوجه اختيارنا لشيخنا، أم نحل شأننا بأنفسنا، وبإشراف واحد من أبناء عمومتنا؟

ينفض حسقيل عباءته بحركة تمثيلية واضحة ويقول:
إذا كان حضوري هو المشكلة، سأترك المكان.
صاح العدد الأكبر من شيوخ العشيرة بصوت واحد:
بل يبقى حسقيل والروم الموجودون بيننا، فكلهم إخواننا، ولا فرق بيننا وبينهم.

__________________________________________________ __________

>>>> الرد الخامس :
أخرج منها يا ملعون

حرم الروم على قبائل العرب أن يبتاعوا سلاحا وكانت عقوبة من يتجاوز الحظر الغزو

الجزء ( 6 )




تنطلق رواية الرئيس صدام حسين «اخرج منها يا ملعون» من الكشف عن علاقة الشيخ ابراهيم مع ايتام اولاده الثلاثة، الذين قتل آباؤهم في غزوات ومنازعات قبلية، وتسلط الاضواء على شخصية كل منهم، وهم حسقيل ويوسف ومحمود. وفي الحلقات السابقة، دارت حوارات بين الجد واحفاده حول مفهوم الثروة، وأوضح كل منهم ما الذي يعنيه له. وتنكشف خلال ذلك أطماع حسقيل في التفرد بالثروة، ورغبته في الانفصال بما يملكه مما أدى إلى نبذه من الجميع. ثم يوزع الشيخ ابراهيم «البلاد» على حفيديه محمود ويوسف، داعيا اياهما الى الابتعاد عن فتن الاجنبي. اما حسقيل فقد استقر في قبيلة مناوئة. ويسلط الروائي الاضواء على السلوك المشين الذي يتبعه حسقيل لدى القبيلة التي لجأ اليها وهي عشيرة المضطرة.


***


ويواصل حسقيل خبثه مع شيخ عشيرة المضطرة وأفراد عائلته بهدف السيطرة عليهم وعلى ثرواتهم عن طريق المصاهرة

وافق شيوخ العشائر المنتسبون لتلك القبيلة، ومعهم أغلبية الحضور.. رغم اعتراض أحد الشيوخ بقوة على هذا، وسحب صلاح سيفه وهو يصيح بقوة:
ان هذا غدر.. ان هذا خيانة لتاريخنا وتراثنا، وتضحيات أجدادنا وآبائنا، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، قبل أن يصير أبو لذة شيخا علينا والآن تسعون لأن يصير حسقيل شيخا علينا مع كلب الروم، بل ان تصرفا هكذا وصفه يعتبر خيانة حتى لدين من هو على دين حقيقي منا.. خيانة للحاضر وللأجيال من بعدنا.. فوالله لن ارضخ لأمر يسيء لكل هذا، ولن يرهبني ويجعلني لا أقرر طريقي واختياري بنفسي، أنا وعشيرتي، ولن أخشى حسقيل ولا الروم، ولا أخشى من يرضخ صاغرا مخزيا لهما.

وعندما يعترض أحد الشيوخ يصيح به بقوة.. وعندما يهم أن يهوي عليه بسيفه يسقط على ظهره حتى تظهر عورته.. فيضحك قسم من الشباب، بعد أن يخرج الشيخ الشهم، على منظر جبن من جبن.. عندما واجه ذلك الشهم الضعفاء.

من جانبه، كان حسقيل قد رتب الأمور مع زوجة الشيخ، لذلك كان الاجتماع في بيت الشيخ، واختيار وجهاء وشيوخ العشائر أن يكون حسقيل هو الذي يدير الاجتماع، وعندما حاول أن يظهر شيئا من التمنع التمثيلي، قام كثر منهم إليه، ملحفين الرجاء، هذا يقبل كتفه، وذاك أنفه، والآخر جبينه، أو كتفه، وصغار السن يقبلون يديه، وكلهم يرجون حسقيل أن يقبل الإشراف على مناقشة مصير القبيلة، إلا واحدا من الحضور، كان رجلا مهيبا، قاتل قتالا مشهودا عند المنازلة مع القبيلة المختارة، رغم أنه أساسا لم يكن مقتنعا بضرورة شن الغارة على تلك القبيلة، ولا بأسبابها ودوافعها.

لذلك عندما نزل رجال المضطرة من على صهوات جيادهم لينهبوا حاجيات بيوت المختارة قبل أن تبدأ المنازلة، بقي هو على ظهر جواده، ولم يشترك في جمع الأسلاب، وجعلته حصانته الذاتية وروحه العالية، وشجاعته، من بين القلة النادرة، بل في مقدمتهم، مع ما سجل من علامات متقدمة على من قاتل فعلا، لذلك كان آخر من انسحب من المعركة، ولكثرة ما سال على قبضة سيفه من دماء، جفت على كفه اليمنى بسبب الإمساك بالسيف لمدة طويلة، وهو يهجم بأمل أن يخلص أكبر عدد ممكن من الوقوع في الأسر.. ولأن الدماء جفت وجمدت على كفه وهي ممسكة بالسيف، فإنه لم يتمكن من فتح قبضة يده ويخليها من قبضة السيف، إلا بعد أن نقعها في ماء دافئ عند أعرابي استضافهم وهم في طريق العودة إلى ديارهم بشهادة من كانوا عائدين معه، إلى قبيلتهم بعد الغزو الفاشل.

قال صلاح، بعد أن نهض ليتكلم وقوفا:
إننا أبناء قبيلة واحدة، نحن الحضور هنا في دار الشيخ الذي خزينا به قبل أن يخزي نفسه، ذلك لأن من لا يستحي من العار لا تخزيه نفسه إذا ما ارتكب ما يعيب، أقول، نحن الموجودين في هذا البيت، كلنا أبناء قبيلة واحدة، إلا حسقيل، ومن أحضرهم معه، فهو رجل غريب، والذين معه غرباء أيضا، بل جاءنا دخيلا، وقبلنا أن يعيش بيننا كمستضعف، ويعمل وفق مصلحته صائغا أو حذاء للخيل، أو حدادا وصانعا للأسلحة، لكن لا يجوز أن نبحث شؤوننا بحضوره، خاصة في شأن مصيري كهذا.. وفي كل الأحوال، لا يجوز أن يكون حسقيل مشرفا على حوارنا هنا، أو شيخا علينا..

وفي الوقت الذي كان يقول ذلك، كان كثر من الجالسين يشوشون عليه، وبعضهم يحصبه بالنوى أو الحصى الصغير، بعد أن كان حسقيل قد قدم لهم تمرا، قبل الغداء، وقد أراد بهذا لا أن يظهر لهم كرمه، إنما يجعلهم يتناولون التمر، وينكبون على شرب الماء، بما يجعلهم مقلين في تناول الطعام الذي أوصى أم لذة أن تزيد سمنا لكي لا يبالغ الشرهون في تناول الطعام.. هكذا قال حسقيل للشيخة أم لذة.

وبذلك يا شيخة، بإمكاننا بأقل ما يمكن من الذبائح والثريد أن نجعلهم يشبعون.

ورغم أن الحاضرين كانوا يشوشون على صلاح، ذلك الرجل الوقور الشجاع، فقد واصل كلامه، وقال:
انني اعترض على وجود حسقيل وأي غريب بيننا، ولكي لا تتصوروا أن اعتراضي على حسقيل لسبب ذاتي، فأنا لا أرشح نفسي شيخا للقبيلة، وإذا كنتم لا توافقون رأيي، فأنا أعلن انسحابي من هذا المكان، وسأعزل منزلي عن منزلكم حتى تصحوا على زمانكم، وتلتزموا بتقاليد آبائنا وأجدادنا، وتحترموا حقوق القبيلة ومبادئها.. ومن يتبعني فليتبعني، ومن يبقى فعليه إثم ذنبه.
نهض، ونهض معه عدد من الشباب الذين كانوا يحضرون هذا الاجتماع، ولم يبق إلا عدد قليل من الشباب لم ينسحبوا، مع عدد آخر من أعمار أكبر منهم، وأغلبهم كانوا كهولا أو شيوخا، وأثناء عبوره آخر صف من الجالسين، لطم وجه من كان يحصبه وهو يتكلم فسقط على الأرض، وتدحرج غطاء رأسه، وعندما حاول بعضهم أن يتجاسر عليه، سحب سيفه، وسحب الشباب الذين نهضوا معه سيوفهم أيضا، وهنا قام حسقيل ليقول:

(اخوي راشدة)، اترك الرجل يرحل، ولا تعملوا لنا قصة، يا إخوان نحن لسنا بصدد أن ننشغل ببعضنا الآن، فلذلك شأن آخر، قد يأتي وقته لاحقا.. لا تضيعوا علينا فرصة تدبير امرنا، ثم استدار ليهمس في أذن شيخي أكبر عشيرتين في القبيلة، كان أحدهما يجلس على يمينه، والآخر على يساره..

سوف يعاقبه شيخ الروم على موقفه.. لا تقلقوا.

قال حسقيل ذلك، ليجبر الخواطر، ولكي لا تضيع عليه الفرصة التي خطط لها.. حتى انسحب الرجل الشجاع هو ومن تبعه من شباب القبيلة.

جلس الباقون، كل في مكانه.. وأمر حسقيل العبيد أن يصبوا القهوة للضيوف.. هكذا قال ليوحي بأنه صاحب البيت.

قال أحد الحضور:
لنبدأ.
وبدأ ينتقد تصرف الشيخ أبي لذة..
تبعه آخرون، كل يصف عيوب الشيخ، وكان شيخ المضطرة، في الواقع، مليئا بالعيوب.
قال أحدهم:
لماذا لا نحضر الشيخ، لنسمع منه؟

نهره أحد شيوخ الروم.. فسكت.



***



استمرت محاكمة الشيخ حتى قرروا خلع صفة المشيخة عنه بحضور الجميع، وبإشراف حسقيل، وعندها صاروا أمام ضرورة ان يختاروا شيخا للعشيرة بدلا من الشيخ المخلوع.
قال أحدهم:
انا ارشح نفسي لهذا المنصب.. ومن لديه اعتراض فليقله.. قال ذلك بعد ان سحب سيفه من جنبه، وشهره بوجه من قد يعترض، وقام خلفه أبناء عمومته والاقربون، ومعهم بعض الروم، وهم يسحبون سيوفهم ويشهرونها.. وهكذا فعل آخر، ومعه فعل المقربون إليه، ثم ثالث ورابع وخامس، حتى لم يبق وجه وشيخ من وجوه وشيوخ العشائر ضمن تلك القبيلة الا ورشح نفسه، وسحب سيفه، ومعه اتباعه يشهرون سيوفهم بوجه المجهول..

هنا قال حسقيل:
يا (ها لربع)، في مثل هذا الجو، من الصعب ان نختار من بيننا شيخا للقبيلة، وأخشى ان تحصل مذبحة بيننا، اذا اخترنا من بين الحضور شيخا لنا، بسبب تعارض الرغبات والاتجاهات.. ومن اجل ان نحقن الدماء ونحافظ على وحدة القبيلة، اشير عليكم بأن نحكم في امرنا شيخ القبيلة الرومية، فهو رجل حصيف، وفوق ذلك شيخ أكبر وأقوى قبيلة، وهو فوق كل ذلك، تحمل عبء ومخاطر الطريق ليجاورنا هو وقبيلته، أليس من الحكمة ان نعطيه فرصة ان يقول في امرنا رأيه، وهو شرف كبير لنا لا يدانيه شرف!؟

قال حسقيل ذلك وهو واقف، وعندما جلس صفق له كثير من شيوخ العشائر في القبيلة المضطرة، الا واحد اعترض على المقترح، وقال:
انني افضل ان نحل امرنا بأنفسنا، بدلا من الشيخ الذي اقترحته، يا حسقيل.
وعندما رفض الحضور الرأي الوحيد للشيخ المعترض، قال حسقيل:
اذن، على هذا الاساس، اعتبر ان شيوخ عشائر المضطرة قد وافقوا على مقترحي، الا شيخ عشيرة واحدا.

أصبح تحكيم شيخ الروم حالة ملزمة وواجبة طبقا لقرار اتخذه عدد من شيوخ عشائر القبيلة.. ورغم انهم لم يكونوا الاغلبية، ولكنهم فرضوه كأمر واقع، على اية حال.
نهض شيخ الروم، وتنحنح، وكلما تنحنح، قال له اقربهم:
ابشر، ابشر، والله يا طويل العمر، لن نخرج عن مشورتك (شورك) وما تقرره، انت (خوينا) الكبير، وصاحب السطوة العالية في هذا الزمان.
عندها قال شيخ القبيلة الرومية:
اجد صعوبة كبيرة في أن اختار واحدا منكم، بعد ان رأيت ما انتم عليه من فرقة، لذلك أرى، من اجل مصلحة القبيلة، ان يكون حسقيل شيخ قبيلتكم..

ثم اردف:
ان حسقيل ذو تدبير، وهو يصنع السلاح، وله وكالات للمال والدعاية كثيرة، ويقيم معنا علاقات نثق بها ونأتمنها، وعلى هذا الاساس فنحن ايضا بامكاننا ان نساعدكم، وعندما تكون ايدينا بايديكم، ويكون حسقيل شيخ قبيلتكم، فإن كل شيء ممكن، بما في ذلك ان نتكاتف على قهر القبيلة المختارة.

ورغم اعتراض شباب القبيلة الذين ليس في ايديهم حل ولا عقد، صفق شيوخ عشائر القبيلة الا واحدا، قام وقال:
انا ارفض هذا الاختيار، انه اختيار مهين لقبيلتنا، وانا اعترض عليه.
قال شيخ الروم:
ولكننا سنحارب من يرفض.. وسوف نكون جميعا متحدين ضده.
قال ذلك الشيخ:
انا ارفض هذا الطريق، ومع انني لا اريد الحرب، ولكن عندما اكون مضطرا عليها سوف اقاتل..
ومع ان شباب القبيلة صفقوا له، فإن ايا من شيوخ عشائر القبيلة الذين وافقوا حسقيل لم يأخذ برأيه، لذلك غادر الجلسة..
قال حسقيل:
اشكركم اخواني، وأبناء عمومتي، على اختياركم اياي شيخا للقبيلة المضطرة.. سوف اسقط عنكم نسبة الفائدة على الديون المقررة بذمتكم.. وسوف أمنح كل شيخ من شيوخ العشائر في القبيلة مبلغا من المال يدبر به شؤون بيته، ويديم شراء القهوة ليقدمها في مضيفه، وكل على أساس وزن عشيرته، وسوف اخصص نسبة مما تجمعه العشيرة من عملها وثروتها لشيخ قبيلة الروم ليديم دعمه لنا، وكاعتراف منا بجميل اسناده، وصنيعه.. فنحن من غيره لا نستطيع ان نستمر في مشيختنا.
التفت حسقيل الى من كان يجلس جواره، ووجده يضحك، فقال:
ان الطامعين في مشايخنا كثر، وان قوتنا غير مهيأة دائما لتكون في وضع تستطيع ان تصد عنا طمع الطامعين، خاصة اذا ما ظهروا لنا من بين صفوفنا.. ولذلك فإن حاجتنا دائمة، يا ابن اخي، للقبيلة الرومية وشيوخها..
وأضاف:
اشكر لكم جميلكم وصنيعكم، واذا وافقتم، فانتم مدعوون في بيتي اليوم، لنحتفل معا انا وجماعتي.
قال (جماعتي) كأنها فلتة لسان، وكان يقصد شبكة العيون والدساسين، ومتسقطي الاخبار، لكنه استدرك ليقول:
عفوكم، اقصد انا وقبيلتي، نساء ورجالا، اليست الحفلات المختلطة افضل، يا جماعة الخير؟
صاح قسم من الشباب بحماس:
بلى، يا شيخ.
وقال احد الحضور، وهو ثمل ويمسك بيده قنينة خمر من فخار، وباليد الاخرى قدح فخار ايضا، وبعد ان ملأه من القنينة رفع القدح الى الاعلى فوق رؤوس الجالسين، وصاح بصوت متقطع، ووجهه يتصبب عرقا، وهو بالكاد يجد بداية الكلام ليقول:
بصحتكم.. بصحة حسقيل..
قالها متقطعة هكذا:
ب.. صح.. تكم.. ب.. صحة.. حس.. قيل.
وقد اجابه شيخ قبيلة الروم بلغة اجنبية:
(تشيرز).. ثم استطرد حسقيل:
ومعنا شيخ قبيلة الروم، نساء ورجالا، لنحيي حفلة مشتركة حتى المساء، ولنشاهد رقصات ودبكات الروميات، ومعهن، أو الى جانبهن شيخات قبيلتنا، بالإضافة الى رجال القبيلتين.
قال الاكثرية:
نعم.. نعم.. الا اثنين.. اعترضا وخرجا.



***



بعد ان صار حسقيل شيخ القبيلة، حدد لمن يطلبهم ثمن السلاح موعدا ليسددوا ما عليهم، واستولى على ما يساوي دين من عجز عن التسديد من اغنام وابل وابقار، بل راح يستولي على بيوت الشعر العائدة الى من لا يستطيع التسديد..
وعندما يسأله من يسأل:
اليس هذا مبالغا فيه، يا شيخ؟
يجيبه:
وماذا افعل مع من لا يستجيبون لتسديد حقي؟
وعندما يقول له من يقول:
اليس من حق ابن القبيلة على شيخه ان يتضامن معه في مواجهة الظرف الصعب؟
يجيب:
وما قيمة الشيخ والمشيخة من غير فلوس، يا اخي؟ اترى انكم تختارونني شيخا عليكم لو لم املك مالا؟ الم يكن كثر منكم يأخذ برأي صلاح عندما كانت فلوسه كثيرة قبل القتال، وبقيتم في مجلسي عندما احتج على اختياري شيخا، ولم يكن ذلك لأن مالي كثير، وصار هو لا يملك كما كان في السابق، وان نفوذي اندمج مع قدرة ونفوذ الروم؟.. نعم يا اخي ان المال يجمع منك ومن الآخرين، لنواجه به اناسا كصلاح، ما ادرانا.. قد يظهر من بيننا كثر مثله! استمر حسقيل، الى جانب ذلك، يجمع الفلوس من حصيلة ما تشعب من مصالحه.. حتى صارت لمصالحه فروع ليس ضمن القبيلة المضطرة فحسب، وانما اتفق مع قبيلة الروم على ان يتوسعوا في مصالحهم وفق شراكة خاصة، ويمتدوا في مجاميع الحدادة والنجارة والحياكة وبيع السمن والبسط والزيت والزيتون لكل القبائل، ومن لا يفتح لهم مجالا لمصالحهم يشنون عليه حربا بصورة مشتركة، حتى انهم أسسوا وكالات خاصة لتصدير واستيراد كل شيء تبيعه القبائل أو تستورده، الا اهل العراق، فانهم رفضوا ان يبيعوهم شيئا، أو يستوردوا منهم شيئا، من خلال المكاتب التي اسسها حسقيل، أو اسسها بصورة مشتركة مع الروم.

ولأن ما كانوا يستوردونه من العراق هو النفط والقار (اي القير)، والتمر.. وكلها، عدا الحبوب، لم يكن احد ممن يجاورهم يمتلك بديلا عنها، فقد اضطروا الى ان يسمحوا للقبائل بأن تستورد من العراق من غير شروط. وتسببت المكاتب التي أسسها حسقيل، أو تلك التي اسسها بصورة مشتركة مع الروم في عداوات واسعة بين قبائل العرب ضد حسقيل وضد الروم من بعده، لأنهم تضامنوا مع حسقيل في تجارته الاستغلالية، عدا عن الارباح الفاحشة التي كان يتقاضاها من الربا، سواء من خلال وكالاته ومكاتبه المتخصصة المستقلة، أو تلك التي اسسها حسقيل بصورة مشتركة مع الروم. وقد فرض حسقيل والروم على كثر من قبائل العرب، بل حرموا عليهم ان يبتاعوا سلاحا، أو اي نوع من انواع ادوات الزراعة أو الحرف اليدوية، وحتى أواني الطبخ، الا من الروم أو حسقيل، وكانت عقوبة من يتجاوز ذلك ان يغزوه، ويستولوا على ممتلكاته، وعاثوا في الارض فسادا، بعد ان اصبحوا اكبر قوة في هذا المحيط، في ذلك الزمان، وكلما ظهر صوت يعترض على حسقيل وقبيلة الروم من بين الشباب، دبروا له في ليل خنجرا مسموما ليغمد في ظهره أو بين ضلوعه، أو يغروه يما يغرونه به، كل حسب هواياته واهتماماته ليتنازل عن موقفه لصالحهم، وصاروا الاكثر ثروة بين القبائل، بل لعل ثروة حسقيل بصورة خاصة، وثروة شيوخ قبيلة حسقيل وشيوخ قبيلة الروم صارت الاكثر، بغض النظر عن مستوى ملكية افراد القبائل العاديين، الغني منهم والافقر، حتى بالقياس بما كان عليه مستوى المعيشة بين القبائل الأخرى..



***



كانت الشيخة أم لذة تنتظر ان يتقدم حسقيل لخطوبتها، بعد ان طلقها زوجها الشيخ السابق، أو هي طلقته، وعلى أساس ما اتفقت معه من قبل، وعلى خلفية خدماتها التي قامت بها بين صفوف نساء القبيلة، ولكنه كان يبقيها بالأمل مع كل يوم أو اسبوع أو شهر يمر الى ما بعده.. حتى صار الزمن يعد بالسنوات بدلا من الاشهر، وفي الوقت الذي كان يؤمل أم لذة، كانت عينه على لذة، ذلك ان لذة لم تمكنه من نفسها، ولأن من عادة هذا النمط من الناس ان يبحث عمن لم يلمسها، وفي الوقت الذي يشبع من تلك التي بين يديه، راح حسقيل يجري خلف لذة، وكلما حاول معها، تملصت منه بطريقة لا تجعلها تبتعد عنه ليقطع الأمل فيها، ولا تقترب الى الحد الذي تحقق بغيته فيها..

وعندما كان يقول لها:
لقد اتعبتني يا بنت الحلال، ولم اعد اعرف ما اذا كنت راغبة في فعلا ام تلعبين بي.
تقول لذة:
لا عاش من يلعب بك، لكن صبرك علي، لئلا نلفت انتباه الناس لحالنا بما يثير التساؤلات، التي ما ان تكون في افواه خصومك، حتى تضعفك عندما يتقولون بما يعني ان عائلة الشيخ القديم متفقة معك على النتائج التي حصلت، سواء بعزل الشيخ ابي او بتنصيبك شيخا علينا.. وبذلك يضاف اليك عبء جديد، عدا الاعباء التي نسمعها ونراها من ان القبيلة صارت موزعة في ولائها بينك وبين من خرجوا عليك، بعد ان رفضوا انتخابك وولايتك على القبيلة، حتى صار لاعدائك شأن لم يكونوا عليه، عندما فزت بمنصب المشيخة..
ثم أليس ما تنتظره اكثر اثارة مما تأكله..!؟


سكت حسقيل على مضض، لا لقناعته بما قالته لذة، انما لقوة حجتها ومنطقها..
ثم يعود حسقيل لاجئا لأم لذة.. وان كان يراجعها وتراجعه، لكنه لم يبق في شوق اليها، مثلما كان في السابق، وعندما طال الزمن بها، ولم تلمس منه ما هو يقين في رغبته ونيته في الزواج منها، قالت له بوضوح:
ان لم تتزوجني، يا حسقيل، سأجمع كل نساء القبيلة، واحكي لهن قصة المؤامرة التي حكتها على القبيلة، وما وجهتني بأن اقوم به من دور وسط النسوة.. بل لعلي جمعت الرجال لأقول لهم الشيء نفسه، وعند ذلك سيكون مصيرك في كف عفريت.. ترى ماذا سيكون عليه حالك لو فعلت ذلك، خاصة بعد ان صار لك خصوم جديون داخل القبيلة، واولئك الذين شكلوا عشيرة مستقلة من الذين خرجوا عليك، بعد ان اشرفت على القبيلة، ثم خرج من خرج على ولايتك، عندما اختارك شيخ قبيلة الروم شيخا على قبيلتنا؟.. لقد غدرت (نكت) بي، ولم يبق امامي غير ما قتله لك، فعليك ان تنظر في الامر جديا، وتحكم عقلك وتقرر ولا بد ان تعرف كيف ومتى تقرر وامامك اسابيع قليلة، فان لم تقرر، سأحدد لك زمنا بالايام، وبعدها اكون في حل في اختيار التوقيت المناسب والطريقة الاكثر ايذاء بالافضاء بكل ما اعرفه للقبيلة..

داور حسقيل الامر مع نفسه، وانصت وهو في اسوأ حالة اضطراب، وهو يسمع منها كل ما قالته، حتى تحول التخلي عنها الى حقد وكره شديدين، والى شعور ورغبة جامحة في الانتقام.. لذلك افتعل او تقمص مظهر الهدوء وقال:
انك واهمة في ما استنتجته، ولا اعتقد انك بحاجة الى ان تطبقي ما قلته، ذلك لأنني احبك ولا استطيع ان استغني عنك، لكنني اردت ان يبتعد الزمن عن خط البداية، لكي لا نلفت انتباه المتصيدين، ونعطي متسقطي الاخبار ومن يحاولون اضعافي واضعاف وهز القناعة بمشيختي، التي بنيتها انت بالدرجة الاساس، تخطيطا وتنفيذا كأنه بهذا استعار جانبا اساسا من الحجج التي قالتها لذة، عندما كان يتحايل عليها ليتزوجها، بعد ان فشل في الحصول عليها من غير زواج.

قالت الشيخة:
على اي حال، قلت ما قلته، رغم أنني واثقة من انك ستتزوجني.. لكني اردت ان احسم ترددك في أمر ينطوي على مصيري ومصيرك، واردت ان استعجلك، محاولة ورغبة مني في ان احصل منك على ولد يكون قرة عيوننا ويجعل دارنا تخضر من جديد، بعد ان كبرت لذة وامتناعي عن انجاب غيرها بعد ان اكتشفت ان حياتي مع شيخ العشيرة السابق لن تستمر.. وها هي لم تستمر، مثلما تعرف وترى..

ما ان خرج حسقيل من بيتها حتى بدأت افكاره تسير باتجاه التآمر على حياتها، بعد ان وضعته امام الأمر الواقع.



***



استمر حسقيل وشيخ قبيلة الروم في عملهما الذي اعتادا عليه من استغلال وابتزاز للقبائل المجاورة، تحت كل العناوين والانشطة التي ذكرنا والتي لم نذكر، واغتيال هذا او ذاك وفق تدبير مشترك لمن يكتشف انه يعارض خططهما، بالاضافة الى العدوان المستمر على من كان يجاورهما، بما في ذلك انهما امتدا في غزواتهما وعدوانهما حتى الى العراق، لكنهما هنا ردا على اعقابهما، رغم ما الحقاه من اذى بالناس، ومنه قتل المواشي او الاستيلاء عليها وحرق المزروعات وقطع النخيل ومع ذلك ردا واتباعهما مهزومين بالنتيجة وكانوا عندما ينهزمون امام اي قوة او قبيلة، يزدادون حقدا على المنطقة ويزدادون امعانا في القتل وحرق المزروعات وقتل الحيوانات التي لم يستطيعوا الاستيلاء عليها ونقلها الى حيث ديارهم.. ولم يسلم منهم حتى النساء والاطفال، حيث لم يبقوا احدا يحبهم، بل صار الكل يكرههم من شرق المنطقة الى غربها ومن شمالها الى جنوبها.. وعبثا حاول شيوخ القبائل، زرافات ووحدانا، ان يقنعوا حسقيل وشيخ قبيلة الروم، بتغيير مواقفهما.. وارهق الناس من حولهما جراء عدم الاستقرار والحروب، وبدأ الفقر يدب بسبب الاتاوات التي فرضاها على الناس، عدا الزامهم بان يكون كل نشاط تجاري او اقتصادي بوجه عام مع حسقيل ووكالته ومع رئيس قبيلة الروم وقبيلته حكما، على ان يفرضا اسعار ما يشتريانه او يبيعانه، ولم يعد للمنافسة من اي طرف مكان او دور، انما ما ذكر فحسب.. بالاضافة الى الاتاوات المباشرة التي يفرضانها على الناس واصحاب الاموال منهم بوجه خاص، من حين الى آخر، تحت هذه الذريعة او تلك..



***



في أحد الايام، اقترح حسقيل على شيخ الروم اقتراحا غريبا، قبله شيخ الروم.. اقترح حسقيل ان يشيدا بناءين شامخين كأنهما برجان عملاقان، وصارت المبالغات والقصص تدور حولهما، بسبب ارتفاعهما ومستوى البناء، حتى قال احد البنائين الفرس ممن استخدموا في البناء، ان فأس البناء سقط من يده يوما وهو في الطابق الاخير، وبسبب ارتفاع البناء لم يصل الفأس الى الارض حتى ذلك اليوم الذي كان يتكلم فيه.. وانهم عندما كانوا يعملون في البرج يقول الفارسي كان صعودهم يستغرق اسبوعين ونزولهم اسبوعا، بعد ان يبقوا معلقين في سلم البناء ثلاثة اسابيع ليل نهار..
كان عدد من الاعراب وغيرهم يستمعون الى مبالغات هذا الفارسي، وعبثا حاول من حاول منهم ان يقنعه بعدم دقة ما قاله.. لكنهم لم يقولوا له انه يكذب على غرار ما تفعله الدبلوماسية في هذا العصر، بقولها عن الكبار عندما يكذبون، ان فلانا الأميركي.. او الانكليزي او الفرنسي، لا يقصد ما قاله، او ان الصحافي الذي نقل عنه الكلام لم يكن دقيقا او لم يكن دقيقا تماما..

اراد احد الاعراب ان يناكد الفارسي بسبب كذبه، فقال له:
كنت مع والدي في زيارة للعراق، واشترى لي والدي خيارة قثاء من سوق مدينة (تل اسمر) (1) السومرية، وكانت الخيارة ناضجة وبذورها ناضجة هي الاخرى، وقد جلسنا نأكلها على حافة نهر ديالي، الذي كان اسمه تورنات في تلك المرحلة من الزمن، فسقطت بذورها ونبتت بذرة منها واورقت وازهرت واثمرت خيارة ونحن جلوس ننتظر ما يحصل، واستمرت خيارة القثاء تستطيل وتستطيل ونحن نمشي معها حتى وصلت الى حدود العراق مع ايران، واجتازت الحدود، واستمرت تستطيل فدخلت طهران، ثم قصر الشاه الايراني، ولم يتمكن الحرس منها، واستمرت كأنها افعى تسعى وتتلوى في طريقها، حتى اتجهت باتجاه غرفة زوجة الشاه.. وهنا صاح الايراني:
(امان).. دخيلك.. اوقف الخيارة ولا تدعها تستمر.
قال محدثه:
ايها الكلب، لن اوقف خيارة القثاء الا اذا جعلت فأس أبيك تسقط على الأرض في الحال.

على هذه الصورة والتخيلات كانت صور البرجين ترسم وتنسج حولهما القصص والروايات والمبالغات، لكنهما على اي حال برجان شاهقان وفريدان من نوعهما، وقد اقنع حسقيل شيخ قبيلة الروم بانشائهما، لكي يكون لكل واحد منهما برج يضع فيه ثروته او جل ثروته، بما في ذلك الحبوب والصوف والسمن والتمر والذهب، حيث تتعذر السيطرة عليهما لو وقع غزو، اذ يكفي ان يكون فيهما عدد من الحراس مع القسي والنبال والسهام، او اي من الاسلحة الاخرى، ليكون من المتعذر على الغزاة السيطرة عليهما وانتزاع موجوداتهما.. وقد بني البرجان عبر البحر على الحدود الفاصلة بين القبيلتين: القبيلة المضطرة وقبيلة الروم.. وعندما انجزا، صارا من بين العجائب على قياس الاعاجيب في ذلك الزمان.. وبانجاز بنائهما، كان الشيخان قد عصرا عظام الناس واكبادهم وقلوبهم، ليوفرا تكاليف بنائهما، ولكي يخزنا ممتلكاتهما، كل في برجه.. وبالاضافة الى هذا الغرض، فقد كان الشيخان يحييان، كل في برجه، حفلات ماجنة جعلت الناس تضج مستاءة من تصرفاتهما ومجونهما.. وكل منهما يرصد غارات الاعداء عليهما او يرصد غارات جماعتهما ضد الاعداء، لما يوفره ارتفاعهما من امكانية النظر الى مسافة بعيدة.