عنوان الموضوع : رواية انثى العنكبوت لقماشة العليان... كامله رواية جميلة
مقدم من طرف منتديات الضمير العربي

رواية رائعة اعجبتني فأحببت نقلها مع تحفظي على بعض ماجاء فيها ....


رواية انثى العنكبوت لقماشة العليان



"خيط أول " أحلام



... اعيتها رحلة البحث عن الحرية وسط تقاليد صارمة نصبت كتمثال الحرية منذ عشرات السنين، كانت تحارب طواحين الهواء كما فعل دون كيشوت، حاربت الشمس ووقفت ضد شروقها وحاولت إخراس أمواج البحر وأن يضل الليل طريقه إلى دروب المدينة ... أصمت أذنيها عن سماع تغريد الطيور ودوران الطبيعة من حولها، وجلها تنادي بإحناء الهامات لتهدأ العاصفة... العاصفة لا تهدأ أبدا بل تمور وتمور لتبعثر الآمال وتنثر السحب خيوطا في الرمال فتحلق الحرية بعيدا كطير يطير بنصف جناح.


ما هي الحرية؟
أتساءل عن معنى تلك الكلمة الساحرة الرائعة الحارقة .. أنا المكبلة بالأغلال وقيود لا تري وقضبان تحيطني من كل الجهات .. هل الحرية هي السعادة، الانطلاق ، التحرر من كل شئ وأي شئ، أم هي حرية الرأي، حرية الكلمة، وحرية التفكير، أم تراها الثورة على التقاليد والأحكام البالية المتوارثة من آلاف السنين..؟

اتساءل وأنا أتأمل الجدران العالية التي تسد أمامي منافذ الحياة ووجوه النسوة المنهكات التى تتوالي على ذاكرتي ، كما تتوالى النحطات المختلفة على قطار ضيع دربه وتاه عن الطريق المرسوم له مسبقا..
ضحكات بعيدة ، ضحكات حزينة، ضحكات ليس لها مدى بلا مكان أو زمان ... تطل علي في جوف ليلي البهيم وكأنها بقايا نجمات هاربات...

أدرت رأسى تجاه الحائط أتامل الدوائر الحمراء المرسومة بقلم شفاه أحمر رخيص وشفاه أكثر رخصاوابتذالا... وتساؤلات شتى تدور داخلي وتسحق فى دورانها السريع سؤالي الدائم عن الحرية ومعناها... تذكرت حينها قول تولستوي قبل أن تصدر الحكم على الأخرين تعلم كيف تصدر الحكم على نفسك). وأنا لم أصدر الحكم على نفسي بعد، ولا يهمني تعاقب الأيام وذبول زهرة العمر وانطفاء جذوة الصبا أو تجاعيد الزمن المتسللة_لا محالة_ غلى وجهي لايهمنى كل ذلك لأنني ربما لن أعيش حتى ذلك العمر..

أنتظر كل يوم خطوات النهاية المرتقبة وأحدق في سقف أيامي المتهاوي وهو يقترب من الأنهيار، ما شعوري في هذه اللحظات كما سئلت مرارا وتكرارا ... أأكون كاذبة لو قلت لا شعور؟ .. نعم شعوري بالضبط هو اللا شعور ...هو عدم الإحساس .. انعدام الوزن أو شئ من هذا القبيل ، شعور أخافني يوما ما لكنة الآن لا يعني لي شيئا أو إنني أترقبه كشئ حتمى منتظر، لاكهاجس مرعب. تلوح لي أيامي الماضية كأطياف من الأحلام .. ترى هل كنت مخطئة طوال حياتي، هل جانبنى الصواب فى كل خطواتي، هل كياني كلة شر مطلق ولم أعرف الخير قط كما صرخ بوجهي البعض ... لا أدري .. لكنني قررت مواجهة الورق بحقيقتي والانكشاف الخير أمام الذات بلا قشور أو زيف أو خداع كما أري نفسي بالمرآة بمميزاتي وعيوبي ... اخطائي وخطاياي .. آمالي وآلامي...أحلامي وأوهامي ... الحيقة العارية حتى من ورثه التوت ... ثم بعد ذلك لا شئ يهم.

لم يكن في حياتي شئ غير عادي أو شاذ أو مميز ..أبدا، كل شئ كان يسير فى مجراه الطبيعي.. شابة ، جميله، من عائلة مرموقة ومعروفه .. الأب متسلط مستبد برأية أو ديكتاتور كما يقال.. والأم طيبة مستكينة بلا رأي ... أقعدها المرض ومنعها حتى من قدرتها على المشاركة ، فبقيت مجردة من كل المزايا كلوحة تزين جدران البيت... لوحة ممزقة مبعثرة بلا أساس ولاملامح . أم بالاسم فقط ، لكن شتان بين الأسم والكينونة . فالأم هى الحنان.. العطاء .. الرعاية ... الحتواء .. الم هى العالم بأسرة مختصرا فى فرد واحد ...الأم هى الأمان حين يكشر العالم عن أنيابة فى وجهك .. الأم هى الجدران التى تحيطك من كل أذى .. وأنا للأسف ولدت فى العراء ولا حوائط تنأي بي عن أذي الآخرين وشرورهم ... ولدت فى المستشفى لكنة ليس كأي مستشفي ..إنة مستشفى الصحة النفسية أو كما يطلق علية العامة" مستشفى المجانين"..
ولدت أثناء إحدي نوباتها التى يودعها ابي على أثرها هذا المستشفى
__________________



كانت مريضة مزمنة بالنفصام وبلا أمل فى الشفاء ... أنجبتني لتحضنني شقيقتى الكبري ذات الأعوام الخمسة عشر وتمنحني ما استطاعته من حنان ورعاية واحتضات فنشأت لا أعرف لي أما سوى بدرية... أما تلك الراقدة على فراشها دوما او قابعة فى مقعدها أحيانا أو الغائبة فى المستشفى شهورا طويلة ، فلم أكن أعتبرها سوي جزء من أجزاء البيت كقطعة أثاث أو ديكور نعيش به أو بدونه ... بوجوده أو عدمه ...هكذا كان إحساسى بها بلا تزييف أو بهتان... لا مبالاه تجاه أمي ...خوف شديد من أبي .. حب وتعلق بشقيقتى الكبرى ... مشاعر أخوية عادية تجاه أشقائي الثلاثة وشقيقتى الأخريين ... كنت الصغري بينهم ... المفترض أنني المدللة والمحاطة بكل رعاية وحنان لكن هذا لم يحدث سوي من بدرية فقط دون الأخرين ... وما زلت أذكر حتى اليوم ليلة زفاف شقيقتى بدرية.. كنت فى السادسة من عمري على وجه التقريب ... بقيت تلك الليلة محفورة فى ذاكرتي لا تبرحها ... أحسست بالفقد والحرمان والضياع ... لعبت فى حفلة زفافها وضحكت ورقصت، وحينما عدنا البيت بدونها صرخت بلوعة تمزق القلوب ... ركضت فى أنحاء البيت أبحث عنها رغم علمي بعدم وجودها .. انتهي بحثي فى حجرتها الصغيرة التى شهدت أمسيات مشتركة بيننا وأحضانا ودموعا ... لم أجد سوى سريرها الخالي وبعض أدواتها الخاصة وثوبها الأخير الذى خلعتة قبل ارتداء ثوب الزفاف الابيض ... احتضنته وانا ابكي وانتحب ، كنت أشم رائحتها خلاله وبقايا عبير كانت تتنسمه...

انتزعتنى سعاد ، إحدي شقيقاتي ، من الحجرة وهى تبكي أيضا واختى الأخري ندي تبكي وفى عيني أمي بقايا دموع ..

أكانت تحس وتشعر مثلما نحن أم أن المرض قد قضى على دقات قلبها كما ألغي فكرها ووجودها؟ تفكرت طويلا رغم حزني الكبير ...نمت تلك الليلة وأنا استشعر فجيعة كبرى وألما لا اقوي على أحتماله ، نمت وسط دموعي بإحساس هائل باليتم تطارني الكوابيس المرعبة ، فاصرخ أثناء نومي بلا شعور، صحوت فى الصباح على ظلام كثيف يتراكم فى داخلي بلا انقطاع.. عفت الطعام .. وبدأت اتقيأ كل ما يدخل جوفى حتى الماء ، ثم مرضت ورقدت طريحة الفراش وأياما لم ار خلالها شقيقاتي، وقد علمت ان أمي قد عاودتها إحدي النوبات ونقلت إلي المستشفى الصحة النفسية مما زاد من ألآمي وعذابي ... لم ينقلني أحد إلى الطبيب، فشفيت تدريجيا وبدات أستوعب درس الحياة القاسى ... وأتلقي اول اللطمات فى عمري الصغير وأن الحياة ليست سوي محطات لقاء ووداع.

زارتنا بدرية بعد زواجها بأسابيع، مضيت أحدق فيها عن بعد دون أن أجرؤ على الأقتراب منها، كانت مرتبكة ذاهلة، وقد زادت نحولا عن ذى قبل ، نادتني طويلا قبل أن أجرؤ على الأقتراب منها... طبعت قبلة مرتجفة على خدي وأعطتني حلوى ونقودا ثم مضت تتحدث مع شقيقتاي عن البلد الذى زارته مع زوجها أحمد، بعد قليل ألفيت نفسي أسألها ببراءة:
_ بدرية متى تعودين إلى بيتنا وتتركين احمد ؟ أنا أريدك..
اهتزت قليلا قبل أن تقول:
_ سأعود كثيرا لزيارتكم وستريني دائما إلي جوارك حتى تتزوجي .. هل هذا يناسبك يا أحلام؟

ومضت أشهر طويلة قبل أن يتضح لى أن بدرية ليست سعيده فى زواجها وأن زوجها سكير عربيد دأب على ضربها طوال حياتها معه حتى حملت وأجهضت ، حتى عادت إلى بيتنا باكيه طالبة الانفصال عن زوجها مفجرة كل ما أختزنتة من أحزان طوال عام كامل هو عمر زواجها ... أمي التزمت الصمت كعادتها ، لا كلمة لا رأي .. لا أحساس ولا حتى تعبير عن الوجود..





انتهى الجزء الاول ولنا عوده بجزء ثاني
_________________________________
______
الجزء الثاني




أشقائي كل منهم أبدي رأية وأن تحفظ البعض ، لكن الأغلب يناصرها فى طلب الطلاق ... احتضنتها باكية لبكائها وكاننى أعلن عن أتحادي غير المعلن معها...
أبي كان رده صاعقا حاسما ومباغتا ..وجوده ألجم الأفواه حتى أنني توقفت عن بكائي .

قال بلهجتة الواثقة:
_ ليس عندنا مطلقات فى العائلة ولن يكون ... ستعيشين مع زوجك وتحملي معه كل الصعوبات ثم تموتين معه، فبناتي اللاتي أزوجهن لا يعدن أبدا إلى بيتي ، هيا.. هيا انهضى لتعودي إلى زوجك...

تجمدت ملامح بدرية ، فتحت فاها أكثر من مرة , لكنها لا تنطق أبدا ..لأن كلمة أبى لا ترد أبدا، فقد نهضت إلى حجرتها تجمع أشياءها وهى تبكي ... تبكي بحرقه وألم وأمي لا تفتا تردد كلمتها الخالده فى المآسي:
_" لا حول ولا قوة إلا بالله" ...
عادت بدرية إلى بيت زوجها مطأطأة الرأس ذليله ليمارس عليها شتىصنوف الإهانة والإذلال وسحق الكرامة...

لم أنس لإبي موقفه هذا ولا موقفه مني بعد ذلك بشهور حيث تعرضت لأبشع موقف تتعرض له طفلة فى مثل سني وظروفي، حينما حاول جارنا أن يغتصبني رغم أن الأغتصاب لم يتم والمحاولة أجهضت فى بدايتها لعناية الله ورحمتة ، إلا أنة ترك نقطة سوداء فى حياتي وأثرا لا يمحى على مر الزمن اهتزت معه كل مبادئ أمام نظري واختلت القيم واضطربت المرئيات ، فبت أري من خلال هذا الرجل المتوحش الذى يغافل زوجتة ليخدش براءة طفلة فى سن ابنته أن الرجال على مختلف أعمارهم وألوانهم سواء فى الخبث والمكر والغدر ... وانة لا أمان مع رجل كائم من كان بدءا بابي وانتهاء بأي رجل آخر على وجه البسيطة. دخلت بيتنا بعد هذا الحادث أرتجف بعنف وآثار الصدمة واضحه جلية على وجهي. وجدت أبي يتحدث فى الهاتف وأساريره منبسطة وعلي شفتيه ترف وابتسامة من ابتساماته النادرة .. اقتربت منه ثم بكيت أمامة برهبة .. سألنى بحده بعد أن أغلق سماعة الهاتف:
_ ما بك؟
رويت له ما حدث لي بصوت متهدج وأنا أنشج بين كل كلنة وأخري ... وما انتهيت من روايتي حتى فوجئت بصفعته المدويه على صدغي تلتها صفعه اخري ثم صفعات وصفعات وهو يدمدم بكلمات متقطعة:
_ لقد انهارت الأخلاق .. سوء تربية .. البنت كبرت وانحرفت وليس فى بيتي من تكون ساقطة الأخلاق ...
جذبنى شقيقى الأكبر من بين يديه بصعوبة وهو يتابع صرخاته :
_ لن تخرج هذه البنت من البيت أبدا ابدا .. سأحبسها حتى تتعلم كيف يكون الأدب والأخلاق ... هيا أغربي عن وجهى

بكيت على صدر أمي طويلا بدون أي طائل ... لاكلمة ولا همسة ولا حتى لمسة تعاطف ... سئمت استجداء العواطف ... سئمت تسول الحب والأمومة واجترار غريزة تجمدت فى قوالب صلبة لا تلين .. مللت انتظار الذى لا يجئ والركض فى من مستحيلة...

وما أن سمعت كلمتها المأثورة ( لا حول ولا قوة إلا بالله ) حتى انتزعت نفسى من بين احضانها وارتميت على على سريري باكيه لتتلقفنى شقيقتاي بكلمات مطمئنة وعبارات هادئة ، وأن ما حدث لا يعدو أن يكون حادثا عاديا يتكرر كثيرا، وانه يجب أحمد الله على نجاتى من براثن ذلك الوحش الغادر... نمت بين دموعي ولم أنس ذلك الحادث ابدا بعد ذلك وتأصل الخوف من ابي فى أعماقي وسلبيتي تجاه امي وشفقتى تجاه اختى بدرية وأشقائي الآخرين..

وظلت أمي على هامش الحاة، تمشى وتري وتنام حتى جاءتها الضربة القاصمة من حيث لا تدري ولا ندري ... فقد تزوج أبي .. تزوج فتاة صغيرة لا تتجاوز سنها العشرين عاما... أخبرتنا بذلك جاره لنا تربطها علاقة واهية بأمي، فأمي لا صداقات لها ولا علاقات ولا روابط من أى نوع ، فهي متقوقعة على ذاتها مكتفية بها عن العالم أجمع... كانت الجارة تتحدث وفى عينها بريق غريب أدركت فيما بعد انه بريق الشماته.. تركزت أنظارنا على أمي لنري وقع الصدمة عليها ، وكأننا نتفرج على برنامج مسل فى التلفاز، فلم نعرف كيف ستكون ردة فعلها على حدث مريع كهذا... فلم نعرف أبدا أهي تحب أب أم تكرهه، تحترمة أم تخافه، ما نوع العلاقة بينهما، إلى أي حد تستشعر فى حياتها؟ وكم كانت الصدمة مروعة حقا.. فقد انقلب معها أمي إلى كائن آخر لا نعرفه.. صيرتها الفجيعه إلى أمرأة أخري من لحم ودم وعواطف وليست قالب ثلج لا يشعر كما عرفناها دائما.. اهتزت بعنف وبدت عليها مظاهر الحياة والأحساس والمشاعر ... وامتلأت عيناها بالدموع...ثم بكت بعنف وشدة وركضت نحو جهاز الهاتف سمعتها تحادث أبي ثم أغلق سماعة الهاتف وهى تنتحب إلى جوارها، ودون أن يقترب أحدنا منها انتفضت فجاة وكأنما مستها الحياة بعصا سحرية ، ثم مشت بنشاط وحيوية نحو حجرتها لتجمع ملابسها فى حقيبة كبيرة .. وخرجت بعد دقائق ونحن نحدق فيها بصمت واستغراب شديدين ... قطعت الصمت سعاد شقيقتى بقولها:
_ إلى أين يا أمي؟
هتفت أمي بعصبية:
_ إلى الجحيم .. لكنني لن أنتظر دقيقة واحدة فى هذا البيت...
عادت سعاد تقول:
_ لكن يا أمي ليس لك مكان آخر ... فأخوك الوحيد فى مدينة أخرى وبعيدة و...
قاطعتها أمي:
_ سأذهب إلى المستشفى ولن أعود إلى هنا أبدا...
فتح أب الباب بهدوء ثم وقف لحظة يقيس الموقف قبل ان يقول:
_ أعيدي الحقيبة إلى مكانها يا ام صالح... وكوني هادئة وطيبة فلن تخردي من بيتك إلا إلى القبر....

صرخت أمي صرخة مدوية وهى تقذف الحقيبة بوجة أبي ... تفاداها أبي بحركة سريعة قم أقترب من أمي ، وبدلا من أن يهدئ من روعها صفعها بعنف ، وازداد صراخها وهياجها...

فى تلك الليلة أودعنا امي المستشفى بعد نوية شديدة تفوق نوباتها المعتادة صراخا وهذيانا وهياجا ... ولأول مرة يخلو البيت من أمي وأبي فى وقت واحد. أمي تحتضن الألم والرعب فى حجرة باردة تمتلئ بالصراخ والعذاب والجنون وأبي فى بيته الجديد يحتضن عروسة الجديدة، ونحن فى ضياع وأسي تتناهبنا الخواطر المزعجةويعتصر نا الألم على ما وصل اليه حالنا... لم يهتم أبي بوحدتنا وخوفنا، فغاب أياما طويلة لم يزرنا خلالها أبدا ... لا تزال ذاكرتي الحبلي تلهبنى بسياط تلك الليالي الؤرقة..

حينما أجتمع واخواتي فى إحدي الغرف ترتعد فرائصنا عما يمكن ان يحدث لنا فى اللحظة التالية، وتطول اللحظات والدقائق والساعات والخوف يضخم الأوهام وينفخها بروحه ليغدو كل شئ مجسما مخيفا .. فحركة الرياح هى مجموعة لصوص سيقتحمون علينا البيت وشجار القطط هو رجال مقنعون ابتدأوا يكسرون أبوابنا وقطرات المطر هى خطوات أحد المجرمين المسلحين .. كنا نستبشر ببزوغ النهار وأذان الفجر فلا خوف مع أذان الفجر وخروج المصلين للصلاة ، وقتها كنا نتنفس الصعداء ثم ننام بأمان افتقدناه طويلا...

حادثت شقيقتي الكبرى بدرية ورجوتها أتبيت معتا هذة الليالي فقط ، لكننى سمعت زوجها على الطرف الأخر وهو يصرخ ويسب ويشتم .. وتلجلجت بدرية فى جوابها فحز فى نفسي أ احملها ما لا تطيق وهى النسمة الرقيقة والحمل الوديع، فهمست لها وقد تحطم شئ ما فى نفسي:
_ لقد عدلت عن رأيي ... سننام وحدنا هذة الليلة أيضا..
أحسست بها على الطرف الآخر وهى تتمزق وأخيرا أجابت:
_ سأزوركم قريبا.. قريبا جدا ان شاء الله ..
حالما اغلقت سماعة الهاتف بكيت ... بكيت كل شئ .. بكيت ضعف شقيقتى وأنكسارها .. بكيت الأم الحاضرة الغائبة .. وبكيت الأب الغادر القاسي .. بكيت نفسي التى لم أجد لها مرسي تركن إليه ولا حضنا تضم يتمها فيه ولا دنيا تحنو عليها




انتظروا الجزء القادم
_________________________________

الجزء الثالث




النظر في كل شئ... إنسان يحبة ويثق برأيه ... ترى لو كانت أمي أبدت رأيها أفقت على دنيا غير الدنيا وعالم غير العالم الذي عرفته وعشته... أشقائي وشقيقاتي وقد تفرقوا بين بيوت أزواجهن وزوجاتهم وفى السفر للدراسة وأمي التي فقدتها نهائيا بالموت... ماتت حزنا وكمدا... ماتت تكابد آلامها الكثيرة بدءا بزواج أبي من أخرى غيرها وانتهاء بأمراضها التي لا تحصى... ماتت بعد أن أعياها الدواء وقتلها دورها الهامشي في الحياة فلا هي أم ولا زوجة ولا ابنة... هي كائن مشوه لم يعرف السبب الأساسي من وجوده، تماما كالزائدة الدودية التي لا يعرف لها فائدة حتى الآن ... ماتت بعد أن ظلمتها الحياة وقهرها الزوج وتجاهلها الأبناء... ماتت دون دمعة ألم ولا كلمة رثاء... ( ارتاحت من الدنيا) كلمة قالها كل من عرفها .. لكني بكيتها .. بكيتها كثيرا... ليس لأنني اعتدت البكاء لكنني أشفقت عليها... نوع من الشفقة المرة اجتاحني على مصيرها، فقد عاشت وماتت دون أن تذوق طعم السعادة... وكل لحظاتها السعيدة النادرة امتزجت بمرارة غريبة... بمرارة اعتادتها ولم تنكرها.

وكما لم يقدرها أبي في حياتها فلم يرع حرمتها وهي متوفاة، فقد أحضر زوجته غداة الوفاة في نفس بيتها وحجرتها وحتى سريرها الذي تشرب دموعها وخوفها وأساها...

لم يسعنا سوى تقبل الأمر الواقع خصوصا حينما أنجبت زوجة أبي الأولاد والبنات... علمتني الأيام والمآسي أن أعامل زوجة أبي بحياد تام، لا حب أو كراهية أو حقد ... تحاشيت كل ما من شأنه خدش القوالب وتحطيم الحدود وتجاز الأسوار، فعشنا يجللنا الاحترام المتبادل والثقة والوفاق... حتى تخرجت في الجامعة وحزت على بكالوريوس لغة عربية، فجاء تعييني في قرية تبعد عن مدينتنا عشرات الكيلومترات، حينها حدثت كبرى بيني وبين أبي... فقد رفض وظيفتي البعيدة وخيرني بين وظيفة قريبة في نفس مدينتنا أو المكوث في البيت بدون وظيفة... ناقشته ... بكيت كثيرا حتى فوجئت بتدخل زوجة أبي ... تدخلت لصالحي ووقفت تطالب بحقي في العمل ما دمت قد تعبت سنوات طويلة في الدراسة ... صمت أبي... لم أفهم هل كان صمته لاقتناعه بمنطقها... وكلامها الواقعي ورضاء واستسلاما أم كان صمتا مغلفا بالرفض والاحتقار والمكابرة حتى عن الرد...
ثم بعد صمت طويل قال بهدوء وربما بذل وخنوع:
- جهزي نفسك يا أحلام، غدا سأذهب بك إلى مدرستك في القرية لتبحثي حينها عن مواصلات لذهابك وإيابك مع زميلاتك والمدرسات...

جمدت واقفة مكاني لا أبرحه... ولا أستطيع حتى الآن تفسير الحالة الغريبة التي مررت بها... مشاعر غريبة اختلطت داخلي، فلم أستطع أن أشكر أبي على تنازله عن رأيه بهذه السهولة المقيتة ولا عكست عيني أية نظرة امتنان لزوجة أبي على تدخلها ووقوفها في صفي... هل ذهلت أو صدمت...؟ لا أدري لكن عادت بي الذاكرة إلى الوراء أعواما طويلة لأسمع جملة أمي الخالدة ( لا حول ولا قوة إلا بالله) فتهزني من أعماقي، تهزني في الصميم ... فلا حول لنا ولا قوة ولا رأي حتى أصبحنا كقشة في مهب الريح يتلاعب أبي بمصائرنا وقراراتنا دون أن يجد من يناقشه، من يقنعه... من يفهمه؟ من يحاوره؟

مضى وحده كران طائش لسفينة غارقة بلا دفة ولا اتجاه... تزوجت أختي بدرية دون أن تدري سوى قبل زفافها بأيام, لتكتشف الاختيار الخاطئ لأبيها وتتذوق العذاب ألوانا ثم تعود لإصلاح ما يمكن إصلاحه والانفصال عن زوجها السيئ وتصحيح مسار حياتها المقلوب، تفاجأ بقرار آخر أكثر سطوة وظلما وجبروتا... أن تعود لزوجها رغم كل مساوئه لتعاود الحياة معه ، بكل عذاباتها وآلامها مسيرة لا مخيرة... ذليلة مهانة محطمة. فعاشت مع زوجها كما عاشت أمي مع أبي وأنجبت منه خمسة أطفال في جو من التشتت وعدم الاستقرار حتى توفاه الله في نوبة سكر لم يفق منها أبدا فأصدر أبي قراره الثاني دون أن يجد من يعارضه، أن تبقي في بيتها مع أطفالها دون زوج طوال حياتها. فالأرملة لا تتزوج مرة أخرى في عرف أبي وقوانينه الجائزة... فعاشت راضية قانعة دون أمل في شئ... أو في غذ مشرق يمسح عنها عذاباتها السابقة وآلامها ودموعها... كذلك أخي صالح فقد أجبره أبي إجبارا على الزواج من ابنة عمة رغم ارتباطه بقصة حب مع ابنة الجيران ووعده لها بالزواج... وقف أمام أبي يرتجف من رأسه حتى أخمص قدميه وهو يقول:
- أنا لا أريد الزواج إلا من واحدة فقط يا أبي....

ذهل أبي ... بل صعق .. هل هناك من يجرؤ على معارضته في شئ أو التصدي له في أي أمر من الأمور ... فوجئت بصفعة مدوية تردد صداها في بيتنا المفجوع من أبي على صدغ أخي وهو يهدر بصوته القوي:
- ستتزوج ابنة عمك شئت ذلك أم أبيت... فقد اتفقت مع عمك على ذلك ولن تكسر كلامي...

وضع صالح يده مكان الصفعة وهم أكثر من مرة بفتح فمه ليتكلم... ليناقش... ليصرخ أو يعترض لكنه لم يستطع... ولا استطعنا نحن، ولا أمي تفوهت بكلمة غير كلمتها المأثورة ( لا حول ولا قوة إلا بالله) والتي تعني التسليم والانهزام والمرارة... لا أحد استطاع أن يقف في وجه أبي وقتها أو يناقشه في حق أخي في الاختيار، فهو الذي يتزوج لا أي شخص آخر ... مرض شقيقي فترة طويلة... ثم تزوج ... تزوج بعين وعقل أبيه... تزوج مرغما يائسا كارها... لم تفتني دمعة انحدرت على خده ليلة زفافه وقد رضخ للأمر كأية فتاة يزوجونها رغما عنها...

شقيقتي سعاد كانت دائمة الخلاف مع زوجة أبي على كل صغيرة وكبيرة. منها تعلمت أن الاقتراب الشديد خطر حتى من أعز الناس... فالبعد راحة وارتياح. ولا أحد يدري ماذا تكنه في أعماقك وما الذي لا تجرؤ على إعلانه... ما يحزنك وما يفرحك... الطفل الذي يسكنك ... كل الأشياء الصغيرة التي تحركك... علمت منها ك لذلك وأكثر... علمني اقترابها الشديد البعد... علمني كلامها الكثير الحذر... علمني سؤالها اللحوح الصمت... خلافاتها الدائمة مع زوجة أبي أودت بها إلي مصير لا تحلم إي فتاة بالوصول إليه... عنادها الدائم أودي بها إلي حرمان من الدراسة وزواج غير متكافئ في مدينة بعيدة... دون أي اعتراض من أحد، فقد خنقت كلمة ( لا حول ولا قوة إلا بالله) إلي الأبد ... الكلمة التي تزيد من جبروت أبي وقسوته... لم يقل مصير شقيقتي التالية ندى عن مصير سعاد بكت ندى ... طال بكاؤها... حسبته حزنا على فراق سعاد وما آل إليه مصيرها ثم ازداد البكاء حدة حتى غدا نواحا ثم صراخا، ذهلت وأنا أراها تصرخ وتمزق ملابسها بجنون...

حضرت زوجة أبي على صراخها... حاولت تهدئتها بشتى السبل، ثم جاء أبي، حاول إسكاتها.. صرخ بها... ثم صفعها بقوة لتزداد صراخا وهياجا ليزداد ضربا لها وركلا حتى كادت تموت بين يديه وهو يصرخ:
- ستفضحنا بين الجيران.. إن موتها خير لها من الفضيحة...
واستمر يضربها بقسوة حتى هتفت وهي تنتحب:
- لا حول ولا قوة إلا بالله...
حينها فقط كف أبي عن ضربها ووقف يضرب يدا بيد وهو يقول:
- نفس مرض والدتها... يا إلهي لقد ورثت المرض من والدتها...

لم تهدا شقيقتي ندي بل نامت تلك الليلة نوما متقطعا تتخلله نوبات بكاء وصراخ... ولم يرحم أبي شبابها وفتوتها بل قيدها بحبال قاسية ونقلها في الصباح الباكر إلي مستشفى الصحة النفسية ليصمها بوصمة العار إلى الأبد ... مريضة بالفصام... ورفض إخراجها من المستشفي مطالبا برعايتها رعاية كاملة ليتخلص من مسؤوليتها... لم يقف أحد ليناقشه. لم يعترض أحد كائنا من كان طريقه، ليقول له بصوت عال أن هذه ابنتك ووصمة العار التي وصمتها بها لن تزول وستفقدها الأمل في حياة مشرقة بعد ذل ... لن يكون لها سوي أربعة جدران كالحة هي حجرتها في المستشفى ونساء فاقدات العقول بدون أهلية هن شريكاتها في الحجرة والحياة ... وطاقم من الأطباء يفترض فيهم النزهة والعفة يحرقونها بالكهرباء كل يوم لتفقد أية بقية باقية من عقلها... وأقراص مهدئة أو مخدرة- لا فرق- تقضي على حيويتها ونشاطها وشبابها إلي الأبد ... وأنها لن تسامحك أبدا ولن يمهلك الله طويلا.

وانتهت ندى... ابتلعتها بوابة المستشفي لتضع أسوارا بينها وبين الحياة في الخارج... لا تزور ولا تزار بفضل حكم جائر لا يرضى عنه الله ولا خلقه... شقيقاي الآخران خالد وحمد حالفتهما النجاة بجلديهما من بطش أبي وتحكمة في مصائر الآخرين. فدرسا وعملا وتزوجا بالخارج دون أن يكون له في حياتهما أي قرار أو اختيار... ابتعدا عن الطوفان ليسلما بحملهما فتعلمت منهما درسا لا ينسى أن أبتعد بحياتي عن أي مداولة أو نقاش رغم قربي وابتعادهم وأن أنأى بخططي وقراراتي وأفكاري عن كل ما حولي رغم التصاقهم وألا أكون مضغة في الأفواه أو مادة للبحث والاستقراء... لم يكن قراري عبثا بل إرثي الهائل من العذابات والأحزان وجهني رغما عني للاستقلال...

حتى جاء أمر تعييني في هذه القرية البعيدة ووقوف زوجة أبي إلي جواري فقد أثبت لي كل هذا إن طريقي الذي سرته بإرادتي لم يكن إلا صائبا، فحيادي تجاههم جميعا أورث أبي لينا تجاهي وحدودي الثابتة مع زوجة أبي ألزمها تضامنا حقيقيا معي ... واكتشفت الأسف حقيقة أبي الرهيبة وهى أن رأيه لا يكون حقيقيا ولا ثابتا بل ينتظر إنسانا ما يعارضه ويثبت له خطأ تصوراته ليعيد في شئ ما هل كان سيصيغ لها سمعا أم كان سيدير لها ظهره كما أداره لها طوال حياته معها..؟

ابتلعت تساؤلاتي داخلي ومضيت أستعد ليومي الأول في مدرستي الجديدة كمعلمة لأول مرة في حياتي...

>>>>> ردود الأعضـــــــــــــــــــاء على الموضوع <<<<<
==================================

>>>> الرد الأول :
الجزء الرابع





كان الطريق إلى المدرسة طويلا موحلا ومرهقا... قضيت وأبي معظم الطريق صامتين غير كلمات قليلة متناثرة عن بعد المدرسة ووعورة الطريق ووجوب اتخاذ وسيلة مواصلات جيدة لي في المستقبل... كان أبي يستمع ألي صوت المذياع المنبعث من راديو السيارة وأنا أتأمل الصحراء من حولي المترامية الأطراف... ابتعدنا كثيرا عن الرياض وبدت الطرق أمامي مقفرة منفرة حتى تحولت الطرق المزدوجة إلى طريق واحد متعرج، تتقاطع فية السيارات النادرة القادمة من جهات متعاكسة وعلى جانبي الطريق لا شئ سوى رمال الصحراء حتى نمر ببعض القرى والهجر الصغيرة المتباعدة ثم نعوج لهجير الصحراء من جديد...

سألني أبي بلهجة جافة إذا ما كنت أريد إفطارا... لم أكن جائعة رغم استيقاظي المبكر في الساعة الرابعة فجرا لكنني كنت قلقة ... حائرة وقضيت ليلة سيئة لم يزرني فيها النوم فأومأت بالإيجاب... دقائق وتوقف أبي عند إحدى محطات البنزين ملأ السيارة بالوقود ثم ابتاع بعض الشطائر التي ما أن شممت رائحتها ورأيت قذارة المطعم الذي ابتاعها منه حتى عافتها نفسي وكرهت مجرد تناولها بيدي... لاحظ أبي نفوري واشمئزازي ... ابتدأ يأكل وهو يقول:
- هذه نعمة من رب العباد ومن عافها فهو جاحد... أستغفر الله.

ومضى طوال الطريق وهو يستغفر ويسب ويشتم، يسب من أو يشتم من لا أدري؟ لكنه كان ناقما علي أشد النقمة، ثم أقبلنا على طريق صحراوي غير معبد بعد أن استعان أبي بخريطة يحملها معه انتهي بنا الطريق إلى هجرة صغيرة، بيوتها طينية على النمط القديم المتباعد وكأننا لسنا في القرن العشرين... ابتعدنا عن الحضارة والتقدم وخلفنا التكنولوجيا وراءنا على بعد أكثر من ساعتين ومائتين من الكيلومترات، كانت البيوت طينية متهدمة تتباعد وتتقارب في الصفوف غير مرتبة ومسجد طيني سقفه من الصفيح الصدئ... ترجلنا أمام باب المدرسة.

لم أصدم وأنا أري هذا المبني العتيق الذي لا يختلف عن غيره من البيوت المقامة في هذه الهجرة... دخلت بعد أن قال لي أبي بحدة:
-سأنتظر حتى تخرجي... لا تنسي أن تدبري لك وسيلة مواصلات فلن أكرر هذه الرحلة ما حييت...

أعلم تماما انه لن يكرر تلك الرحلة، فأنا نفسي رغم رغبتي الشديدة في عملي كمدرسة قد كرهت هذه الرحلة وأصبحت ثقيلة على نفسي، فكيف سأكررها يوميا؟... تساءلت وأنا أدلف إلى الداخل برهبة شديدة ونفس متزعزعة ومهزوزة... غاصت قدماي في الأرض الموحلة من آثار المطر فقد كنا في فصل الشتاء... تنقلت بصعوبة حتى وجدت أول حجرة أمامي دخلتها بتردد... رأيت أول أنسانة في هذه الهجرة البعيدة، كانت من دولة عربية شقيقة، رحبت بي وعرفتني بنفسها، هي مديرة المدرسة. ثم اصطحبتني معها إلى الحجرة المجاورة حيث زميلاتي، المدرسات، مضى الوقت وبدأت تغادرني وحشتي وغربتي...

تعرفت إلي زميلاتي: اثنتان من جنسية المديرة و تسكنان معها في بيت طيني في نفس الهجرة وأربعة منهن يحضرن من قرى قريبة من الهجرة واثنتان يحضرن من مدينتي نفسها... لم أتوان عن السؤال عن وسيلة النقل، أفهمنني بأنهن يحضرن يوميا مع أبي راشد وزوجته وهما من مدينتنا ينقلان المدرسات إلى ثلاث قرى مختلفة في سيارة جيمس صالون ومجموع المدرسات المتنقلات معي ثمان بالإضافة لي ... فرحت بأن طرقي أصبحت ممهدة... وسألت عن كل شئ...

ثم قفلت عائدة مع أبي نسير وراء سيارة السائق أبي راشد لكي ندله علي طريق بيتنا فيأتيني صباح الغد لنبدأ العمل... إلى حد ما كنت مستقرة نفسيا، فالطالبات عددهم قليل والفصول لا تربو على خمسة في كل صف منها ثلاث إلى أربع طالبات لا أكثر... المديرة بشوشة طيبة النفس والزميلات ودودات مرحات...

عدنا إلى البيت في الثانية ظهرا... حكيت لزوجة أبي كل شئ ثم ابتدات استعد ليوم الغد ... يومي الحقيقي في مدرستي الجديدة، اليوم الذي سأمارس فيه مهامي الوظيفية وسألتقي فيه بطالباتي القليلات أتحدث معهن وأعلمهن وأعطيهن من كل نفسي، من كل ما أختزنته من تجارب في الحياة... من حبي للعمل... حبي للدنيا بأسرها... كنت مرحة متفائلة, أشعر بأن الدنيا ابتدأت تبتسم لي رغم تكشيرها في وجهي الأعوام السابقة...

همست لنفسي اليوم الأول في التدريس بمرح ونشاط. لم يعكر صفوي سوى المسافة الطويلة المرهقة المخيفة... فمع سقوط الأمطار الشديدة تحتجب الرؤية عن السائق، فيتمهل في السير وهو يدعو الله بصوت عال ان نصل بسلام وألا يحصل لنا مكروه، كنت أرتجف من شدة الرعب ويظل قلبي يخفق بقوة حتى نقف أمام باب المدرسة ثم أتنفس الصعداء. مضت الأيام في المدرسة وأنا مع زميلاتي شيئا فشيئا وأتعرف إلى أحوالهن خصوصا من يرافقنني رحلة الذهاب والإياب الطويلة.

فوزية متزوجة وأم لطفلين ورغم خلافاتها المستمرة مع زوجها بسبب الوظيفة إلا أنها مستقرة عائليا، والأخرى صباح الأقرب لي نفسيا غير متزوجة، لكنها تتمني الزواج بشدة وبأي شكل وكثيرا ما قالت ضاحكة لو خطبنى حارس المدرسة لتزوجته... وهي متخرجة في الجامعة منذ خمس سنوات ولم تتعين في هذه الهجرة سوى منذ عامين فقط، وتنتظر نقلها إلى المدينة بدون أي جدوى فليس لها واسطة ولا زوج يرغب وجودها إلى جواره كما قالت مرارا وتكرارا...

ثم بدأت أتعرف إلى الطالبات القليلات في المدرسة، إنهن أكبر سنا من مستواهن الدراسي بكثير، فأحداهن في العشرين من عمرها أي تقاربني سنا ولا تزال في الصف الرابع الابتدائي... أسماؤهن صعبة... الشقحاء... عبطاء... وضحى رغم وجود بعض الأسماء العادية بينهن. يعانين من الإهمال الواضح في مظهرهن، فثيابهن مهلهلة قذرة وشعورهن طويلة مدهونة بالزيت غالبا... والقمل يرتع رؤوسهن دون حساب.

حاولت كثيرا أن أصلح من أحوالهن رغ تندر الزميلات ووصفهن لي بالجديدة المتحمسة، فكما سمعت منهن أنهن قد حاولن كثيرا رفع المستوي الصحي واللياقي للطالبات بدون جدوى، فإذا تفهمت الطالبة وحاولت، فلن تفهم الأم ولن تحاول، فالأب غالبا ما يكون متزوجا من امرأتين وربما ثلاث أو أربع وك لواحدة من هؤلاء تجرجر وراءها قبيلة من الأطفال فكيف تعتني بهن وأين لها الوقت تتعارك فيه مع الزوجات الأخريات لزوجها... لكنني لم أستمع لهن وحاولت بكل جهدي تعليم طالباتي النظافة كما أعلمهن الدروس اليومية... وذات يوم كنت في فصل رابع أشرح لهن بعد انتهاء الدرس أهمية النظافة وكيفية نظافة الشعر من القمل باستخدام شامبو معين يباع في الصيدليات والاستحمام اليومي وكيف يعود على الجسم بالصحة والنشاط ثم بعد انتهاء الدرس لحقت بي إحدى طالباتي" وضحي" وقالت لي على استحياء:
- أبله إن شعري فيه قمل كثير.
أجبتها بهدوء:
- أعرف يا وضحى ... أعرف.
- أبله إنني أكره القمل واود لو أتخلص منه.
أجبتها بنفس الهدوء:
- حسنا يا وضحى هذا بسيط.
ومضيت أشرح لها الطريقة المبسطة عن كيفية استخدام الشامبو المناسب. أجابت والخجل يعقد لسانها:
- لكن يا أبله... الرياض بعيدة... ونحن لا نذهب إليها أبدا كأهل قريتنا.
ابتسمت وقد فهمت مرادها:
- حسنا يا وضحى... أعدك بأن أجلب لك الشامبو في أقرب فرصة وسأكون سعيدة بهذا جدا.
وفعلا ابتعت لها الشامبو وأهديتها إياه... لم أنس فرحتها الشديدة به كأنه هدية ثمينة من الذهب، وليس شامبو يباع في البقالات بسعر زهيد.

بعد بأيام قلائل أتتني وفي يدها وعاء وتقول أنه هدية من أمها لي... سعدت كثيرا بتقديرها ووالدتهالي رغم ان الهدية عبارة عن أقراص من اللبن المجفف يطلق عليها اسم" البقل" أو "الأقط" كانت أقراصا لذيذة جدا استمتعت بالتهامها مع زميلاتي اللواتي أخذن يتهامسن عن علاقتي بهذه الطالبة...

وفي طريق العودة إلي مدينتنا حكت لي صباح قصة وضحى التي لم تنجب أمها سواها وشقيقها المدرس الذي يكبرها بعشر سنوات ويدرس الأولاد في نفس الهجرة... ولقد أنجبتها والدتها بعد يأس من الإنجاب ففرحت بها كثيرا ودللتها بشكل مبالغ فيه... ولم تنجب غيرها مما اضطر الأب الذي كان يحب الأم كثيرا إلى الزواج مرة أخرى وأنجاب الأولاد و البنات... أشفقت على وضحى كثيرا بعد أن سمعت قصتها فحكيت لزوجة أبي عنها وعن حياتها في دنيا خالية من المسرات والبهجة... فلا تلفاز في القرية ولا جرائد يومية ولا أي شئ يمكن من خلاله معرفة العالم الخارجي وما يدور به.

توثقت علاقتي بوضحى بعد ما لمسته من جدها واجتهادها وتعلقها الشديد بي، فكانت كل يوم تحاول ان تظهر لي بأنها قد أصبحت نظيفة متألقة... وفعلا فإنها تبز الطالبات جميعا بالنظافة والترتيب والاجتهاد بالإضافة إلى أخلاقها العالية وحيائها الملحوظ... ثم فوجئت ذات يوم بوالدتها( وهي امرأة لطيفة ودودة تناهز الخمسين من عمرها أو ربما أقل لكن حفر الزمن وأخاديده تبدت على وجهها وحول عينيها) هل كان حزنا ذلك الذي أضاف لعمرها سنوات أم هو خوف ووحدة... لا أدري... لكنني رحبت بها بصدق وحرارة وامتدحت لها ابنتها وضحى. رأيت ألق الفرحة في عينيها واتساع ابتسامتها، ثم صافحتني بود ودعتني لزيارتهم في بيتهم البسيط... اعتذرت لها بصعوبة ذلك حيث إن دوامي الوظيفي لا يسمح لي بمثل تلك الزيارات ثم ودعتني بحنان استشعرته بكل كياني فأيقظت في نفسي جروحا قد أقفلت على صديد ووعيت على حقيقتي المجردة اليائسة الباشسة, وهي أنني إنسانة محرومة من الأمومة والحنان فلم أعرف لي أما طوال حياتي الخاوية... بكيت في ذلك اليوم لا أدري لماذا... قطعت رحلة الأياب في بكاء متواصل ... ورفضت الحديث مع زميلات الرحلة اللواتي كان البعض منهن يتحادثن بينما الآخر كن نياما...

في ذلك اليوم البعيد تسلل الحزن إلى فؤادي فمزقه بلوعة، تذكرت غربة أحياها في بيت ولدت فيه، تذكرت الأم التي كانت كطيف مر بحياتي، كحلم لا جود له... أختي التي استشعرت أمومتها وحنانها لا تزورنا إلا لماما بسبب الجفاء المتبادل بينها وبين زوجة ابي ولا أستطيع زيارتها لرفض أبي القاطع... وإخوتي المتفرقين على أحزان لا يحدها المحيط.
كانت المفاجأة بانتظاري في الغد... والأقدار تنسج لنا ما لم نتخيله ولو في أقل أحلامنا واقعية وبساطة... كان المطر غزيرا في ذلك اليوم ، وما إن دخلنا المدرسة حتى فوجئنا بالمستخدمة تخبرنا بأن اليوم عطلة نظرا لغزارة الأمطار وأن المديرة أخبرتها أن تبلغنا بذلك. خرجنا بعدها مسرعات إلى الباب خشية أن يذهب أبو راشد كعادته كل يوم... وفعلا لم نجده أمام الباب وكأن الأرض انشقت وابتلعته مع سيارته فلم ندر أين هو... حتى الحارس لم نجده إلا بصعوبة، ثم طلبنا من أن يبحث عن أبي راشد فبحث بتكاسل تحت المطر الغزير ليأتي خالي الوفاض معلنا بأنه لم يجده... في هذه اللحظة حضرت إحدى المعلمات مع زوجها من هجرة قريبة فأبلغها الحارس بالأمر... تشاورت وزوجها ثم عرضت علينا أن توصلنا إلى الرياض، ترددت صباح بينما وافقت فوزية على الفور من أجل أطفالها كما قالت ... ورفضت أنا. وبين تردد صباح وموافقة فوزية ورفضي... فوجئت بوضحى ووالدتها تأتيان تحت المطر الغزير لتعرضا استضافتي هذه الفترة مع زميلاتي المعلمات حتى يحضر السائق... وافقت على الفور بينما ذهبت صباح وفوزية مع زميلتنا عواطف وزوجها إلى الرياض... لم يكن رفضي ناجما عن حيائي من زوج زميلتي عواطف بل كان رفضي لأنني أعرف موقف أبي من هذا الأمر وكيف ستكون ردة فعله... فقد أوصلتني ذات يوم مرة إحدى زميلاتي في الجامعة إلى منزلنا بعد تخلف باص الجامعة في نفس الوقت الذي حضر فيه أبي إلي المنزل ، وما إن رآني أنزل من السيارة الغريبة ورأي زميلتي وشقيقها حتى غاض الدم من وجهه وسبقني إلي البيت ليضربني ضربا مبرحا ما زالت آثاره باقية... حتى اليوم... ولولا تدخل زوجة أبي لإنقاذي من براثنه لقضيت في ذلك اليوم ... لذلك فإنني وازنت بسرعة بين مخاطرتي في الذهاب مع زميلتي وزوجها إلى إلى الرياض وبين بقائي في الهجرة مع تلميذتي وضحى ووالدتها فاخترت الأسلم والآمن... كان بيتهم غاية في البساطة والرثاثة... مساحة كبيرة مسورة بالطين من كل الجهات ثم حجرات طينية متفرقة في أنحاء الدار. دخلنا إحدى هذه الحجرات البسيطة... كانت مفروشة بحصيرة مخططة بألوان باهتة ومجموعة قليلة من الآرائك الإسفنجية البسيطة تتوسط الحجرة، مدفأة قديمة تتوهج بالحرارة والدفء وفي ركن الأركان وضع دولاب خشبي وصفت عليه مجموعة من الأباريق النحاسية وبعض الأكواب الخزفية والمعدنية...

جلسنا حول المدفأة ... أخذت أرتجف بعنف. لا أدري هل كان شعورا بالبرد اجتحني بعد المدفأة أم كان الأمر خوفا ورهبة إذ أنني لأول مرة أدخل بيتا غريبا ... كانت الأمطار تهطل بغزارة على الأرض الطينية في فناء الدار الكبير ورائحة الجدران الطينية المبللة بماء المطر تعبق بالحجرة ممتزجة برائحة الشاي بالزنجبيل الذي تعده ام وضحي على الموقد أمامي... رشفت الشاي ببطء مع بعض لقيمات من رقاقات خبز العسل بعدها انطلقت على سجيتي أتحدث عن بيتنا في الرياض وشقيقتي بدرية وأولادها والمدرسة والطالبات...

كاد المطر يتوقف ولم يتبق سوى زخات بسيطة كالرذاذ المنعش... جذبتني وضحى من يدي لتريني حجرات الدار الأخرى... كانت حجرا بسيطة تكاد تخلو من الأثاث عدا بعض الحصائر والفرش البسيطة، وفجأة التقت عيناي بعينين غريبتين تحدقان بي... لحظات وأدركت الكيان ككل .. أنه رجل أختبات في أحضان وضحي لتصرخ بصوت عال:
- سعد... أذهب من هنا... لدينا ضيفة...
رفعت رأسي ببطء وأنا أتلفت حولي... لقد أختفى سعد... لا أدري أين ذهب ... ربما عاد من حيث أتى... أنه شقيق وضحى الأكبر... لم أتخيله بهذا الشكل، شاب وسيم رغم أنه حاد النظرات كغالبية رجال هذه القرى... ترى لو علم أبي أنني تبادلت النظرات مع شاب ما حتى ولو كان بغير قصد... ترى ماذا سيفعل؟ هززت رأسي بقوة وطردت تلك الأفكار المرعبة ومعها ذكرى أبي المخيفة...قالت أم وضحى بسريرة نقية:
- لا تؤاخذيننا يا ابنتي... إن سعد لم يكن يقصد... فلم يعلم ان في الدار ضيفة...
أجبتها بهدوء:
- لم يحدث شئ يا أم وضحى...

ومضى الوقت سريعا حتى أقترب موعد أوبتي إلى المنزل، فعدت مع وضحى ووالدتها لأجد أبا راشد وزوجته في انتظاري... وفي طريق العودة الطويل لم يكن يشغل بالي سوي ذلك البيت الطيني القديم وساكنيه الثلاثة...






وللقصة بقيه
__________________
الجزء الخامس



- هل هذا منزل عبد الرحمن محمد صالح؟
- نعم إنه هو...
- هل السيد عبد الرحمن "أبو صالح" موجود؟
- كلا هو في الخارج الآن... هل هناك ما نقوله إذا عاد؟
- نعم ... أنا سالم عبد الله... من قسم شؤون المرضى في مستشفى الصحة النفسية ... أبلغيه يا سيدتي...

صمت الصوت لبرهة جمدت فيها الدماء في عروقي... تابع بأسي:
- إن ابنته المقيمة لدينا في المستشفى قد انتحرت...
ابتلعت ريقي بصعوبة وأنا أجيبه...
- وهل ماتت...؟
- يؤسفني إبلاغكم بذلك... إنها موجودة في ثلاجة المستشفى... نرجو سرعة استلام جثمانها...
شهقت بجزع وأنا أسأله:
- كيف انتحرت ... لماذا؟ أرجوك أجبني بصراحة أنا شقيقتها.
- سيدتي نحن لا نعطي معلومات لأحد... إذا حضر والدها إلى المستشفى سيعلم كل شئ... مع السلامة...

خفقان عنيف يتسلل إلي قلبي حتى خلت أنه سينفجر داخل ضلوعي... النبضات تتسارع في جسدي كله... يداي... قدماي... أسفل عنقي ورأسي... كأنني قنبلة موقوتة على أهبة الانفجار ... سال العرق البارد على جسدي المرتجف بغزارة ثم بدأت معالم البيت تدور أمامي حتى سمعت صرخة الخادمة:
- أحلام...
قبل أن أغيب عن الوعي...
صحوت في المستشفي ومن حولي شقيقتي بدرية وزوجة أبي وإحدى الممرضات...
تناولت بدرية بدرية وهي تهمس:
- حمدا لله على سلامتك يا أحلام...
هتفت برهبة:
- هل ماتت ندى؟
نكست بدرية رأسها وتطوعت زوجة أبي بالإجابة:
- نعم يا أحلام... لقد ماتت ندى يرحمه الله... ولا ندري كيف؟ يرجع الأطباء أنها ربما تناولت جرعة دواء زائدة بقصد الانتحار أو إحدى المريضات قد دست لها هذه الجرعة بقصد أو بدون قصد...
سألتها...
- وهل انتهى الموضوع عند هذا الحد؟
- في هذه الأمور من يحاسب من ؟ أبوك لا يريد الفضائح... فرفض تشريح الجثة أو فتح في الموضوع.
- لكن من قتل ندى؟
- ادعي لها بالرحمة والمغفرة... وإذا أردت الحقيقة فإن موتها خير لها من حياة كهذه بلا هدف...
امتلأت عيناي بالدموع وأنا أردد داخل نفسي" موتها خير لمن... لك أنت ولأبي... أنتما المستفيدان الوحيدان من موتها... لقد قتلها أبي ألف مرة قبل أن تغتالها جدران المستشفي المخيفة... قتلها أبي قبل أن تموت تلك الميتة البشعة و كأنها قطة مشردة بلا عائل، ربما انتحرت وربما قتلها أحد... كلا... كلا أيها العالم إن أبي هو القاتل الحقيقي وقد قتل أمي قبل أن يقتلها ويشرد أهلها ويضع لنهايتها ألف علامة استفهام..."

اهتز جسدي وأنا أنتحب وأبكي بعنف وبدرية شقيقتي تضمني وهي تبكي، وزوجة أبي ترمقنا صامتة حتى دخل أبي الحجرة... لدخوله صمت ورائحة... صمت حبس الدموع داخلي ورائحة أرهبتني، قال بجفاء:
- هيا يا أحلام ... كفاك دلالا وتمارضا...
ثم مخاطبا الجميع:
- هيا اخرجن جميعا... أطفالكن بالانتظار..هيا ...

خرجت متحاملة على نفسي وجرح كبير يتوطن أعماقي ليسيل حقدا وكرها وصديدا من الأحزان... وندى لحقت بأمي وانتهت كلمة " لا حول ولا قوة إلا بالله" وخمد صوتها إلى الأبد... هل أنت مستريح الضمير يا أبي... هل تنام بعمق دون أن يؤرقك خيالها الحبيب وهي تصرخ وتتوسل إليك أن تبقيها في البيت مع أخوتها ولا تذهب بها إلى المستشفى؟ هل تنام دون أن يقض مضجعك عذاب الضمير ونداء الأبوة الساكن في قلب ك لأب طبيعي يحس ويشعر..؟

تغيبت عن مدرستي عدة أيام فوجئت خلالها بزيارة زميلاتي المعلمات وبرفقتهن وضحى ووالدتها... لم يفاجئني سؤال زميلاتي قدر ذهولي مما وصلت إليه العلاقة بيني وبين وضحى تلميذتي الرقيقة وبيتهم الذي لا يبرح ذاكرتي... قدمت لي والدة وضحة هدية من السمن البلدي المعروف بجودته، وصفيحة معدنية مملوءة عن آخرها بالتمر اللذيذ. شكرتهم وأنا أتصنع الهدوء لكنني انهرت في لحظات وبكيت... بمجامع نفسي وانكسار قلبي... هالني الحنان الذي رأيته في عيون من لا يعرفني... الحنان الذي افتقدته في حياتي منذ ولدت... الحنان الذي بعثرني... شتتني ثم أسال دموعي... أصعب شئ في حياتي الحياة أن تجد ما تبحث عنه بعد أن يئست تماما من وجوده وانتفت حاجتك إليه، كالفقير الذي يحصل على ثروة بعد أن أصيب بمرض قاتل لا شفاء منه... ضمتني أم وضحى إلى صدرها وهي لا تنفك تواسيني بكلماتها التي تنزل كالبلسم على جراحي. ولكن ندى من منكم يعرفها... أنها لا تشبه أي أحد آخر... إنها بالضبط كقطرات الندى رقيقة لطيفة وعمرها قصير...

ودعوني بعد أن أعطتني وضحى كتابا عن الصبر والإيمان بالله... كتيب صغير لا يزيد عدد صفحاته على العشرين صفحة. شكرتها ودموعي لا تزال عالقة بأهدابي... ابتسمت هامسة:
- هل تعرفين من هو مؤلفة؟
قلبته في يدي وأنا أهمس بدوري...
- كلا... من ؟
ضحكت بفخر وهي تقول:
- إنه أخي سعد...
هتفت غير مصدقة...
- معقول... أخوك سعد يؤلف كتبا...
تابعت ضحكتها قائلة:
- نعم ولديه أكثر من خمسة مؤلفات.
سألتها وأنا أشير للكتيب:
- مثل هذا؟
أجابت:
- نعم صغير لكنها مفيدة... ثلاثة مؤلفات في الشعر واثنان في الشؤون العامة كهذا الكتاب وكتاب آخر يتحدث عن التفاؤل والتشاؤم.
سألتها بفضول:
- أي مادة هو يدرسها للطلاب؟
أجابت:
- يدرس مادة الرياضيات...
ثم تابعت مبتسمة:
- لقد درس في الجامعة في الرياض وسكن في سكنها بعيدا عنا حتى أتم دراسته ثم طلب التعيين في قريتنا ليكون قريبا منا أنا وأمي، فليس لنا أحد غيره... وسأهديك كل كتبه حينما تعودين إن شاء الله إلى المدرسة، فهمي كتب ممتعة خاصة شعره، فهو شاعر رائع يكتب الشعر كأنه يعزف...

أعجبني منظر الفتاة وهي تتحدث عن أخيها بانبهار شديد. كانت عيناها تبرقان بأضواء خاطفة ووجهها يتورد وعنقها يرتفع ورأسها يطول ليعلوه الفخر والكبرياء... إنها تحب أخاها وتبجله لدرجة الجنون... تساءلت في سري... ترى هل هو يستحق كل هذا؟

استلقيت على فراشي ضائعة بعد أن ذهب الجميع ومضت لحظات أحاول فيها جمع شتات نفسي فلا أستطيع ... أشعر بأنني أشلاء ممزقة في كل ركن تقبع قطعة مني وجزء من أحاسيسي ومشاعري... رباه... ألهذا الحد تأثرت بانتحار شقيقتي... إن موت أمي لم يشكل لي صدمة كهذه ولا دموعا حارقة كدموعي عليها... هل كانت أغلى من أمي على نفسي أم أ، حياتها القصيرة والظلم الذي حاق بها زاد من إشفاقي وهلعي عليها؟ هطلت دموعي بغزارة لتبلل وسادتي ... رفعت يدي لأمسح الدموع، ففوجئت بالكتيب الصغير... قرأت عنوانه بشرود " الصبر والإيمان بالله" فتحت أول صفحة بتردد... ذهلت... كان هناك إهداء بخط اليد ، عبارة صغيرة لكنها معبرة...

" حين تغيب الشمس وتتكثف الغيوم ويحل الظلام فانظري إلى فوق... إلى السماء... دعاء وابتهال... تسقط نقطة ثم ينهمر المطر بغزارة لتتبدد الغيوم وتشرق الشمس... هكذا هي الحياة ... مصابك تتضاءل أمامه أية كلمة عزاء، لكني آمل أن يخفف هذا الكتاب من بعض أحزانك..."
تحياتي .. سعد

انهمرت دموعي مجددا حارقة ... مرة ... معجونة بالعذاب والألم، فهذا غريب يحس بآلامي... بغربتي الداخلية... بشجوني الطاغية فيعزيني ويواسيني... هو يعلم تماما أن الفقد هو أعظم مصيبة تستحق التكاتف والتعاضد وإلغاء المسافات. فالحزن حق مشاع للكل.. فيه يجتمع الناس من كل بقاع الأرض أقارب وأباعد أحباء وغراء لا فرق، فالكل في المأساة سواء... نحن لا نسأل المعزين لماذا يعزوننا وهم أغراب عنا لكن السؤال المهين نوجهه لأقرب الأقارب... لماذا يا أبي؟ أيضيرك كلمة مواساة أو ضمة حنان...؟ هل تنقص من قدرك دمعة مشتركة أو لمسة عزاء؟ هل ما زلت متحجر القلب فاقد الأحاسيس...؟ فقدنا أسرتنا الواحد تلو الآخر دون أن تدمع عيناك أو يرف لك جفن أو تتغير حياتك و لو قيد أنملة ، بل على العكس ماتت أمي فودعتها غير آسف لتحل محلها زوجتك الجديدة... منعت شقيقتي بدرية من الزواج مرة أخرى وحبستها في بيتها مع أطفالها وأنت تفتتح شركتك غير آبه بالحطام الآدمي الذي يتكسر تحت قدميك ... أودعت ندى مصحة الأمراض العقلية وأنت تستقبل مولودتك الجديدة وكأن هذه بتلك... ويتفرق أهل البيت وأنت سادر في غيك، مستمتعا بحياتك التي لم ينقصها شئ... والآن ندى تموت... بل تنتحر... هكذا بكل بساطة دون أن تتعذب بموتها أو تذرف دمعة شفقة أو رثاء، بل طويت هذه الصفحة السوداء من حياتك وكأنها لم تكن. واستعجلتني أن أشفى من حزني... أنت مخطئ يا أبي، فالحزن هو المرض الوحيد الذي لا شفاء منه بل أنه يتغلغل في الذاكرة ويتعمق في الوجدان ليتحول إلى بؤرة صديدية تسيل أحزانا ومرارة وكلما عبرت الذكرى أو لاح وجه المحبوب ولو من وراء الغيوم.

وجدت نفسي لا شعوريا أتعاطف مع هذا الشاب سعد... لقد أحس بي كما لم يحس بي أقرب الناس واستشعر حيرتي وعذابي فكتب كلماته تلك مواسيا ومعزيا. إنه شاعر ولا ريب... فلا يكتب كلمات كهذه سوى شاعر من طراز رفيع وإنسان قبل أن يكون شاعرا...

قلبت صفحات الكتيب وأنا أقرأه بلهفة ... تدريجيا تخففت من أحزاني ووجدت سلواي... أحسست بأن كلماته الرقيقة موجهة لي فقط، تحثني على الصبر والنسيان. وقصص عديدة لأناس واجهوا مرارة الفقد بشجاعة خارقة... احتفظوا بصور أحبائهم داخلهم كطاقة تدفعهم على الاستمرار والعطاء، وعاشورا حياتهم وكما أراد الله من حياة...

غفوت تلك الليلة والكتاب بين ذراعي وكلماته تفترش أرض أحلامي...





وللقصة بقية....................

_________________________

الجزء السادس



خطبت بدرية شقيقتي الأرملة أم الأطفال الخمسة... لم يكن في هذا الأمر ما يدهش أو يريب. فبدرية جميلة متألقة لا تبدو عليها سنها التي تربو على تسع وثلاثين سنة بل تبدو أقل من ذلك بكثير رغم جراحها وعذاباتها المتوالية ومشاكل أولادها التي لا تنتهي ... ليست المرة الأولى التي تخطب فيها شقيقتي بل كثير من المعارف تقدموا لخطبتها، فهي بالإضافة لجمالها وأدبها خلوقة وخجولة ترضى بالقليل وتقنع بأي شئ... لكن أبي رفضهم جميعا لا لعيب فيهم، لكن الأرملة والمطلقة في عرف أبي لا تتزوج مطلقا مرة أخري، بل تدفن مع أولادها حتى تموت... لكم شعرت بالمرارة والأسى وأنا أراها تذبل أمام عيني وأبي يخنق أحلامها ويغتال أي أمل لها في حياة سعيدة متكافئة.

همس لي شقيقي صالح وعيناه تتألقان من وراء زجاج نظارته:
- لقد حضر لي اليوم في المدرسة عبد الله شقيق أحمد زوج بدرية الراحل.
بذهول تساءلت:
- وماذا يريد؟

كنت اعرف تماما أنه لا أملاك لزوج شقيقتي الراحل لينازعها أشقاؤه عليها... أيضا هو لا يريد أطفال شقيقه ليربيهم، لأنه متزوج كما اعلم ولديه أطفال... إذن... تكلم شقيقي صالح:
- قد لا تصدقين ما أقول... لقد حضر ليخطب بدرية مني... أبلغني أن زوجته قد توفيت منذ شهور طويلة، ولن يجد أما لأطفاله خيرا من بدرية، أيضا هو سيكون أبا وعما لأطفالها في الوقت نفسه... ما رأيك؟
خفضت رأسي فتابع قائلا:
- إنه أنسب رجل لها... فهو ليس عربيدا كشقيقه الراحل بل موظف بوظيفة مرموقة ورجل محترم ويقدر الحياة الزوجية... وبدرية لن تعيش طوال حياتها وحيدة...
قاطعته قائلة:
- وأبي...
تنهد وهو يقول:
- نعم إنه يعرف رأي أبي ففي الموضوع وأنه رفض زواجها أكثر من مرة لذلك لجأ لي في البداية لأمهد له الطريق فهو ليس كأي رجل يتقدم لبدرية إن له ظروفه الخاصة... ما رأيك؟

كادت الابتسامة الساخرة تشق طريقها إلى وجهي لولا أني خفت أن أجرحه وأعذبه باختيار أبي لحياته فكيف بمن لم يستطيع الصمود في وجه أبي حين اختار له مصيره وفرض عليه زوجته بالقوة، أن يقنعه بزواج بدرية مرة أخرى... إن الرجل موقف، ومن لم يستطع الصمود مرة لن يستطيعه أبدا. هل بإمكانك يا صالح الوقوف أمام أبي وإعلانه رأيك بكل صراحة في زواج بدرية أم أنك ستخنع وتخضع أمام نظراته اللاهبة وقبضته الأسطورية فتتراجع حينها وتنسي كل شئ حتى نفسك؟ إن حياتك التي صنعتها لك أبي تبدو كالثوب الواسع الفضفاض الذي لا يليق بك فلا هو ضاق ليحتويك ولا أنت تمددت ليتواءم معك فعشت كالضائع الحائر في حياة ليست لك ولست لها... كنت تريد أن تعمل طيارا فاختار لك المهنة الأسلم التدريس، كنت تريد سلمى ابنة الحيران الحلوة التي أحببتها بمجامع قلبك كزوجة لك، لكن أبي اختار لك هدى ابنة عمك الصامتة الكئيبة، فتزوجتها رغما عنك وعشت معها وحب الأخرى يحول بينكما... وأنجبت منها وما زلت. ومضيت في حياة بلا طعم ولا زوج لمجرد رضا الأب الذي لا يرضي ولن يرضي... أخي الحبيب إذا استطعت أن تغير حياتك ولو بمقدار ذرة فتقدم بشجاعة لتدافع عن حق بدرية في الزواج والحياة مرة أخرى... أعلم حزنك الدامي، أعلم انكسارات قلبك الخفية، أعلم صراعاتك الداخلية ، أفهم مشاعرك تماما لكن عفوا أخي، فلن تستطيع حيال بدرية شيئا... أتذكر ليلة زواج سلمى حبيبتك السابقة بعد زواجك بشهور ... أتذكر دموعك التي مزقتك قبل أن تهطل على خديك بغزارة... هل تذكر تلك الليلة الكئيبة التي قضيتها في حجرتي باكيا منتحبا تنقلب على جمر لا ينطفئ أبدا... ثم أردت تسمية طفلتك الأولى باسمها، فرفض أبي وأسماها هو على اسم أمه... ثم عندما طلقت سلمى من زوجها بعد أن عجزت عن التواؤم معه ربما لحبها الكبير الذي عجزت أن تنساه، ناقشت أبي في الزواج للمرة الثانية منها فرفض أ[ي وشتمك ثم طردك من البيت لتأتي في الغداة تقبل رأسه وتطلب منه السماح رغم أن كل شئ من حقك ولست مطالبا بالرضوخ لأي كان ولو لأبيك... لكنك رضخت وأحنيت رأسك للعاصفة مرات ومرات حتى أضحي انحناؤك عادة ورضوخك واجبا وصمتك دائما فتلاشت شخصيتك حتى اختفت ... فكيف يا أخي الحبيب ستطلب من أبي أن يوافق على زواج بدرية وهو الرافض له دوما... وممن ... منك أنت العاجز حتى عن المطالبة بحقوقك... العاجز عن النطق... العاجز حتى عن البكاء قهرا وألما... دعك من هذا أخي ودع بدرية تواجه مصيرها بمفردها، فأن شاءت صمتت وتركته يخطط لها مصيرها كما أراد ويريد دائما...

أفقت على صوت شقيقي يسألني:
- أحلام ... لم تردي ... ما رأيك؟
نظرت إليه بإشفاق وأنا أهمس:
- رأيي أن تبتعد أنت ولا تتدخل... دعه هو يطلبها رسميا من أبي ويقنعه بظروفه لو شاء...

زوبعة كبيرة كادت تطيح برؤوسنا جميعا حينما تقدم عبد الله رسميا للزواج من بدرية... صرخ أبي وشتم ثم هدد وتوعد ثم هدأ قليلا، فأرسل في طلب بدرية... جاءت المسكينة ترتعش من رأسها حتى أخمص قدميها... سألتها قبل أن يراها أبي:
- هل تعرفين أن عبد الله شقيق زوجك المرحوم أحمد قد تقدم لخطبتك؟
فتحت عينيها بدهشة حقيقة ثم تألق وجهها بسرور لم تستطع إخفاءه... أشفقت عليها من قسوة الأب ومرارة الأيام... سألتها بحنان عجزت عن إخفائه:
- هل ستقبلين به يا بدرية؟
أشاحت بوجهها خجلا ثم رفعت شعرها إلى الوراء بحركة لا شعورية... ابتسمت ثم أجابت بخفر لا يتناسب مع وضعها كأرملة وأم لعدد من الأطفال...
- الرأي لأبي فإن وافق فأنا موافقة...
ويحي...إنها تريد الزواج... إنها ترغب في حياة جديدة تذوق فيها طعم السعادة المفقودة ... تود أن تحس ولو لأيام بأنها أنثى لها رجل مثل بقية النساء لا آلة تعمل بالضخ تطبخ وتغسل وتربي وتنام على دموع تبلل وسادتها كل ليلة... أبي لا تحطم أحلامها... أبي أتوسل إليك أن تراعي الله في حقها بالحياة كبقية البشر... أبي يكفيك جرائمك الماضية فلا تضف لها جريمة بشعة كهذه، أن تذبح روحها التواقة للسعادة والحياة، أبي أبتهل إليك أن تمنحها فرصة جديدة هي تواقة إليها... فرصة تثبت لك فيها جدارتها بالحياة خارج أسوار الألم ولو لسنوات... فرصة تحلم فيها أنها امرأة كأية امرأة أخرى من حقها أن يكون لها مشاعر وأحاسيس وظل رجل تتكئ عليه في عراكها مع الحياة لا كأنثي العنكبوت هي وصغارها والعالم... أبي أعطيها الحلم ... الحلم فقط... وصدقني فلن تخسر شيئا، بل على العكس ربما يكون ما تفعله تكفيرا عن السنوات التي دفنتها فيها حية في قبر هو بيتها الصغير ودودا ينهشها هم أطفالها وطلباتهم التي تنتهي ولن تنتهي... أبي ارحم شبابها وضعفها وامنحها حلما لن تندم عليه... لن تندم عليه أبدا.

ابتلعت لساني خوفا واستسلاما ولم أنطق بحرف واحد حينما طلب أبي من بدرية الذهاب إليه في المكتب...

مضت نصف ساعة وضعت يدي فيها على قلبي حتى خرجت بدرية... بدرية التي دخلت غير تلك التي خرجت... دخلت وعاصفة من المشاعر السعيدة تصطخب في أعماقها... دخلت والأمل يخالط بريق عينيها والحلم يلون خطواتها الراقصة بألوان المستقبل، وآمال لا يحدها المستحيل... بيد أنها تبدلت خلال نصف ساعة فقط لا غير ... خرجت وقد كبرت عشرة أعوام على الأقل ... بادية الشحوب والاضطراب... اختفى من عينيها البريق ومعه الأمل، وبقيت نظراتها منطفئة كامدة كعيني لعبة في محل ألعاب خاسر... لا روح ... لا وجود... لقد حطمها أبي...

أسرعت إليها لأضمها إلي صدري... بادرتني قائلة وشفتها السفلي ترتجف بشدة:
- لقد رفض أبي... رفض أبي زواجي...
انقبض قلبي وأنا أسألها بهمس:
- وهل سترضخين له... هل سترفضين الزواج من عبد الله؟
اغرورقت عيناها بالدموع وهي تحاول منعها بقوة جبارة كيلا تبدو ضعيفة أمامي ثم قالت بصوت متهدج:
- أنني أم يا أحلام وأولادي لهم الأولوية في حياتي دائما وهم رسالتي الأولى والأخيرة فلن أتخلى عنهم من أجل أي رجل كان.
قاطعتها مشفقة:
- إنه ليس أي رجل... إنه عمهم وسيرعاهم كأبيهم الراحل تماما فلن تتخلي عنهم مطلقا... أهذا رأيك حقا يا بدرية أم هو رأي أبي؟

أجهشت بدرية بالبكاء رغما عنها فأخذتها بين ذراعي وأنا أشاركها البكاء بمرارة... إنه ليس ظلما فقط يا أبي... كلا ... بل أفظع ... إنه إعدام حلم... قتل حياة... بعثرة وجدان وسحق كرامة... امتلأت رغما عني رغبة في التحدي والجموح... إنها معركة وجود أو عدم وجود... انتصار للإنسانية قبل أي شئ ... همست لها برقة:
- بدرية إذا أردت رأيي الحقيقي فيجب أن تصمدي وتحاربي للنهاية، فهذا الأمر ليس جريمة أو عيبا نحاول إخفاءه... إنه حق ولن يضيع حق وراءه مطالب...
تنهدت بدرية وصدرها يضج بالنحيب المكتوم:
- أنا لا أريد شيئا يا أحلام غير أولادي والصحة والستر فإذا رفض والدي أي شئ فلن أجرؤ على معارضته لأن الأمر برمته لا يستحق...
هتفت حانقة:
- بلى يستحق...و يستحق... ويستحق...
ثم نهضت واقفة وأنا أقول:
- أنا سأناقشه في هذا الأمر.
قبل أن تمتد يد بدرية لمنعي من الذهاب... سمعت صوت أبي الجمهوري وهو يقول:
- في أي شئ ستناقشينني يا أحلام؟
فتحت فاهي لأتكلم... لكنني عجزت عن النطق... كرهت ضعفي وخنوعي... حاولت استجماع شتات نفسي وأنا أقول:
- أبي .. إن من حق بدرية أن تتزوج ... لتجد رجلا إلي جوارها يساعدها في الحياة ويساندها... ويربي أطفالها... ثم إنه عم أطفالها وليش غريبا...
بدأ أبي متمالكا نفسه وهو يقول:
- إن الأرملة تبقى لتربي أطفالها بعد وفاة زوجها وتكرس حياتها لهم...
صرخت بحدة وقد تخلى عنى حذري:
- لكن هذا ظلم يا أبي... إنك تدفنها وهي على قيد الحياة...
ثم أحسست بصفعة قوية على صدغي أطاشت صوابي... وصفعة أخري وأخري سقطت على أثرها غير قادرة على الكلام ولا الصراخ ولا حتى البكاء...

__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثاني :
الجزء السابع



قالت صباح ضاحكة:
- غريبة... ألا تلاحظن التغير الذي حدث لي... ملابسي الجديدة... ابتسامتي المثيرة... وجهي المشرق... تبا لكن من نساء لا يهمهن إلا الطبخ والنفخ...
التفت الجميع إليها... قالت فوزية وظل ابتسامة يتراقص على شفتيها:
- بالطبع نحن نلاحظ كل شئ... لكنك كما أنت دائما صفراء ذابلة كورقة شجرة في الخريف... لم يتغير فيك شئ سوى هذا القميص الجديد... من أين ابتعته؟
التقطت صباح كوبا ورقيا من السفرة الممتدة وعليها بعض المعلبات والمأكولات البسيطة لتقذف به فوزية التي تفادته في اللحظة الأخيرة قبل أن تقول:
- ألم أقل إنكن تافهات... ألا يهمك سوى هذا القميص ابحثي عما وراء القميص...
قالت فاطمة إحدى زميلاتنا ضاحكة:
- وما يكون وراء القميص؟ إنه جسد أعجف أعوج ليس فيه ما يغري حتى على النظر إليه...
قالت عواطف جادة:
- ماذا هناك يا صباح؟ هل هناك خبر جديد...
ابتسمت صباح بعذوبة وهي تهتف:
- لقد خطبت البارحة... تقدم صديق أخي لخطبتي والزواج في الإجازة الكبيرة.
صرخت إحدى الزميلات:
- أخيرا تحقق حلمك يا صباح... العقبي لنا إن شاء الله.

تلقت صباح التهنئة من الزميلات... بينما كنت صامتة واجمة... فقد كانت آثار الضرب المعنوية لا تزال تدمي قلبي وتجرح روحي وإحساسي... أبي يتجرأ ويضربني وأنا في هذا السن... شابة... متعلمة... وأعمل ... لمجرد أنني قد نطقت بكلمة حق؟ إنها آلام لا أقوى على احتمالها...

تعاودني الذكرى البشعة نهاري وليلي... في غدوي ورواحي... وبدرية شقيقتي وزوجة أبي يحاولن إلى فراش وتهدئتي رغم أنني كنت صامتة تماما بلا حركة ولا نظرة ولا صوت، فالتمزقات داخلي، أصمت أذناي عن سماع أي شئ يحدث حولي...

أفقت على ضحكات الزميلات ونظراتهن المرحة نحوي... قالت صباح:
- ألم تسمعيني... لقد قلت لماذا لم تهنئيني يا أحلام... أم إنها غيرة النساء؟
ابتسمت مرغمة وأنا أبارك لها الخطوبة...
ضحكت صباح بجذل قائلة:
- العقبي لك يا أحلام... سأعزمك على حفل زفافي وإياك أن تتخلفي عن الحفل، فأنا لا أسامح الغيورات. ثم سأقنع زوجي بعد حفل الزفاف أن ينقلني إلى الرياض، فهو كما أخبرني أخي علاقاته كثيرة ووساطته جيدة فأبتعد عنكن إلى الأبد...
تابعت وهي تقهقه:
- أتخيلكن في رحلة الذهاب والإياب اليومية بدوني... وأنا في مدرسة إلى جوار منزلي عش الزوجية السعيد...
قالت فوزية ساخطة:
- هذا إن استطاع نقلك... وضعي تحت إن عشرة خطوط حمراء لأنه لن يستطيع...
وقبل أن يتسنى لصباح الرد عليها التفتت إلي فجأة قائلة:
- ما بك يا أحلام... تبدين شاحبة واجمة... هل أنت بخير؟
كادت الدموع تطفر من عيني لكنني تماسكت بصعوبة وأنا أنهض قائلة:
- لا شئ يا فوزية... مجرد تعب بسيط سيزول إن شاء الله...

خرجت إلى فناء المدرسة الطيني... كان الجو غائما والأرض موحلة إثر سقوط الأمطار ليلة البارحة على القرية كما علمت... بعض الطالبات يتفرقن في الفناء فرادى ومجموعات...

وقفت أستشعر غربة شديدة تهز كياني بعنف... أين أنا؟ وما الذي جاء بي إلى هنا؟ وإلى أين أسير؟ من غربة إلى غربة... من بيت أفتقد فيه نفسي ولا أشعر بالحنان أو الرعاية أو الانتماء إلى هجرة بعيدة لا تشبهني ولا تمت لي بصلة...روابط هشة مع الزميلات... شفقة مع قليل من الحنان للتلميذات...مقت شديد للمكان والرغبة في الفرار بأسرع وقت وبأية وسيلة... لكن متى وكيف؟ وأبي أهدر إنسانيتي وذبح كرامتي من أجل كلمة حق، إذن ماذا سيفعل حين أطلب منه أن يتوسط لنقلي من هذا المكان؟ أن يرحم غربتي وعذابي... وأخطار الطريق اليومية مع جميع الاحتمالات، لكنه لا يشعر ولا يحس سوى بزوجته وأطفاله منها... هذا إذا كان لدية ذرة إحساس...

- أبله ... لقد جلبت لك ما وعدتك به...
انتبهت على تلميذتي وضحى واقفة أمامي وفي يدها مظروف كبير...
- أهلا وضحى... وكيف حال أمك؟
- الحمد لله ... أمي تسلم عليك كثيرا... هل نسيت يا أبله؟
- ماذا يا وضحى...
- لقد وعدتك بأن أهديك كتب أخي سعد... إنها معي ... تفضلي يا أبله...

أخذتها منها بيد مرتجفة ... المفروض ألا يراني أحد من زميلاتي وأنا آخذ شيئا من تلميذاتي فربما يفسرنه أي تفسير عدا الحقيقة... طويتها بسرعة أسفل ذراعي وأنا أمشي نحو الفصل... لقد نسيت أن أشكر وضحى على هديتها... اكتشف هذا متأخرا...
حينما غدوت وحيدة في فراشي سألتني زوجة أبي عما إذا كنت أريد شيئا. نفيت أي حاجة لي وأنا أنفرد بنفسي في الحجرة...

فتحت المظروف لتطالعني الأغلفة الملونة للكتب... ثلاثة دواوين شعر" عينيها" ... اسم الديوان... ترى عيني من يقصد سعد؟ هل توجد فتاة في تلك القرية تستحق أن يتغزل أحد بعينيها... ضحكت في سري وأنا أتخيل تلميذاتي واحدة واحدة... عبطا بعينيها الكبيرتين الفارغتين في غباء شديد... الشقحاء بعينيها المملوءتين دوما بالقذى، منيرة إنها مصابة بالحول... والجازي، العنود، حصة وجواهر و... ليست هناك واحدة تملك عينين ملهمتين... فكيف بشاعر مثل سعد أن يكتب شعرا دون ملهمة... دون أساس من الواقع. ربما قد اختار عيني إحدى الممثلات أو المطربات المشهورات... لكنه قد عاش فترة في مدينة الرياض ربما رأى خلالها إحدى فتياتها الجميلات...

حانت مني التفاتة نحو المرآة الكبيرة في حجرتي... تساءلت هل عيناي تعدان من العيون الملهمة... ولم لا؟ لأول مرة أرى جمالي في عيون ذاتي... نعم إنني أملك عينين رائعتين حالكتي السواد ورموشا طويلة غزيرة وجسدا رائعا فتانا وشعرا أسود مسترسلا.. لقد كانت أمي جميلة.. جميلة رغم جنونها وأورثتنا الجمال الذي لم تتمتع به بينما قتلها جنونها الذي انتقل إلى ندى شقيقتي الراحلة... دمعت عيناي لذكراهما ... سقطت دمعة على الكتاب الذي نسيته في حضني... تناولته من جديد " عينيها" قلبت الكتاب في يدي ففوجئت بصورته على الغلاف الأخير... إنه وسيم ... لا يشبه وضحى سوى في الأنف المستقيم فقط... ملامحه تشي بالطيبة والوداعة... نصف ابتسامة توحي بالغموض توجت شفتيه... تناولت الكتاب الثاني.. " صدى الوجدان" اسم الديوان الثاني... اسم جميل يعكس مشاعر طافحة بالحب والخير والأمان ... " إليك أنت" الديوان الشعري الثالث... أغلفة براقة لامعة بخط كوفي جميل بنفس الصورة الخلفية للشاعر... الكتاب الرابع يحمل عنوان " التفاؤل والتشاؤم" كتاب من القطع الصغير بغلاف عادي بدون صور على الإطلاق... واسمه مكتوب بخط دقيق أسفل الكتاب " سعد عبد الله".

تري كم يبلغ من العمر؟ إنه يكبر وضحى بعشر سنوات على الأقل كما سمعت من زميلاتي المعلمات... إذن سنه لا تقل عن الثامنة والعشرين من العمر... إنه صغير على أن يكون له خمسة مؤلفات، وشاعرا أيضا... قرأت قليلا في ديوانه الشعري الأول " عينيها" كان بجمل يتحدث عن الحب والعذاب والوداع والهجر.... ترى هل عاش حبا في حياته؟ وإلى ماذا أودى هذا الحب ؟ لقاء أم فراق... يصعب أن تعبر تلك الكلمات المضمخة بالألم والأحزان إلا لرجل عاش الحب حتى المرارة!!

قررت أن أقضي سهرتي مع أحلام ورؤى ذا الشاعر العذب الكلمات.. قررت أن أخوض معه بحار المشاعر والأحاسيس على أكتشف في النهاية من يكون وإلى أي حائط من جدران الحزن يتكئ... أخذت أجمع بقايا المظروف والشريط اللاصق للكتب لأودعها سلة المهملات لأفاجأ بورقة صغيرة وردية اللون تلتصق بالشريط، نزعتها برفق وقلبي يخفق بقوة... إنها أبيات شعر لا غير... أبيات مكتوبة بخط رائع منمق عرفت فيه خطه الذي كتب به إهداءه الماضي. تناولت الورقة بيد مرتجفة وأنا أقرأ أبيات الشعر المنثور...

ظلام حالك... جدران رطبة... رائحة طينية تعبق بالأجواء،
ظهر القمر... غاب الخواء...
لحظة .... نظرة .... أحداق وأنواء...
يا هل ترى كلنا كنا سواء؟
العشق يقتل صاحبه... إذا لم يجد له دواء...

انتقل الارتجاف من يدي إلى سائر جسدي... ترى ماذا يقصد من هذه الأبيات؟ أحسست بحرارة شديدة ترتفع من أسفل قدمي حتى رأسي...

تري هل يشير إلي ذلك اليوم العاصف الممطر في بيتهم الطيني القديم... وتلك النظرة الخاطفة التي لا تعني أي شئ... ترى هل يقصد بأنه أحبني لأول وهلة؟ كلا... غير معقول... هل من المفترض أن أضع حدا لكل هذا... نعم... فالتمادي يشجعه على المزيد... لكنه يجب أن يفهم أن الإهداء الأول قبلته لظروفي النفسية السيئة وأن صمتي إزاءه كان إكبارا وتقديرا وليس تواطؤا وانحناء... إن عدم رفض الشئ لا يعني قبولة بكل تأكيد فبين هذا وذاك درجات بكل الألوان... في ضعفنا الإنساني نتقبل المواساة والتكاتف الإنساني وتكون كلمات العزاء كبلسم يشفي الجراح، تقربنا من الشخص لكن ليس إلى حد الاستغلال... إلى الحد الذي يمكن فيه فعل كل شئ وأي شئ وفي أي وقت...

هل جن هذا الرجل ليرسل لي اعترافه في قالب شعري مبطن بالألغاز...؟ أم أنني قد ظلمته وقد كان يتعامل معي ببراءة....؟ لكن أين البراءة في كلماته الصريحة المباشرة والتي اخترقتني بحرارتها اللاهبة... لو علم أبي بهذا الذي يحدث لدفنني وأنا على قيد الحياة ... رباه ماذا أفعل ... وكيف أتصرف؟ إن التساهل يؤدي إلي مزيد من التعدي ومحاولة كسر الحواجز... سأوقفه عند حده ليس خوفا من أبي بل أحتراما لأخلاقي وكرامتي وحيائي ... فلست أنا من يسقطها شاب بهذه السهولة وتقع في الفخ كأية حشرة قذرة... كلا أنني رغم وطأة عذاباتي الخاصة تبقي لي مبادئي وقيمي التي لا يمكن أن أتعداها أو أسمح لأي كان بتجاوزها أو خدشها، ولست غريرة أو ساذجة لأقع صريعة أبيات من الشعر أو تدير رأسي وتفقدني قدرتي على التفكير الصحيح... وضحى؟؟... كلا لا دخل لوضحى في شئ فهي مجرد فتاة بسيطة تحبني وتحاول إدخال السعادة على قلبي بشتي الطرق التي تستطيعها...هو الوحيد المسؤول عن أفعاله... هو من يجب أن أؤدبه ليعرف أصول الاحترام والتقدير... مزقت الورقة الوردية الصغيرة وأنا أغلي غضبا واشمئزازا.... قلتها من بين أسناني: حسنا .. حسنا أيها الشاعر القروي سأعرف كيف أؤدبك...





وللقصة بقية


الجزء الثامن



حلم غريب هزني حتى النخاع... حلمت بأمي... بوجهها الحبيب، معالم الحزن المرتسمة في عينيها السوداوين عدا أنها في الحلم كانت ترتدي وشاحا أبيض على رأسها، كانت تبكي في الحلم وتنتحب وتشد يدي بقوة عجيبة، وعلى لسانها كلمة واحدة ترددها بما يشبه الهمس... لا تتركيه... لا تتركيه... أمي من هو؟ ويطل وجه شقيقتي ندى تضحك وهي تخفي وجهها بيديها... ندى... ندى... أمي...

وينتهي الحلم العجيب وقلبي يقفز بدقاته السريعة حتى خلته سيخرج من مكانه والعرق الغزير يبلل جسدي وثيابي... أمي ... ندى... هل كان حلما ذلك الذي عشته بكل كياني أم واقعا مخيفا أشبه بالحلم؟

وسط حيرتي وذهولي سمعت صراخا قويا يصدر من الطابق السفلي في بيتنا. ازداد هلعي وأنا أقفز الدرج قفزا لأرى ماذا يحدث ففوجئت بالمنظر الرهيب الماثل أمامي... أبي يضرب زوجته بكل عنف وقسوة وأولادها متعلقون بها... هي تصرخ وهم يبكون... هالني مرأي أبي، لقد تحول في لحظات من إنسان إلى شيطان... انتفخت أوداجه وأعمى الغضب بصيرته فنبتت له قرون وذيل الشيطان... إنه لم يكن أبدا في مثل حالته هذه... في يده عصا غليظة يهوي بها على كل ما يستطيعه من جسد زوجته... وقد نال الأطفال نصيبهم غير العادل... كانت الساعة التاسعة صباحا من يوم الخميس المفترض أنه يوم عطلة للجميع، فماذا يحدث أمامي... أسرعت بغير تفكير إلى أبي أحاول انتزاع العصا الغليظة من بين يديه، فدفعني بقوة من أمامه وهو يطلق سيل شتائمه علي وعلى المرحومة أمي وسابع جد في عائلتنا... صراخها الذي تحول إلى أنين يمزق أعصابي ويفتتني... إنها لم تكن قريبة من قلبي في يوم ما لكنها تعيش معي في بيت واحد وبيننا روابط مشتركة أولها التكاتف والتعاون غير المنظور وليس آخرها أولادها الذين أخوتي... من واجبي كإنسانة لها شعور وإحساس وتجري في عروقها الدماء أن أنقذها أو على الأقل أقول كلمة حق من باب أضعف الإيمان... خرج صوتي مبحوحا محشرجا وأنا أهتف:
- أبي... أتوسل إليك.... من أجل الأطفال اتركها... إنك تقتلها.
ثم اندفعت وأنا أبكي لأحول بينه وبينها، فانهالت العصا الغليظة على يدي في ضربة مزقت شراييني وأحالتني إلى شظايا... رباه إذن ماذا فعل هذا الضرب المركز بزوجة أبي.
سقط أحد أخوتي الصغار مغشيا عليه بين أقدام أبي فهدأت أنفاسه أخذ يستعيد ذاته شيئا فشيئا...

تكومت زوجة أبي على نفسها كخرقة بالية غير قادرة حتى على التنفس مما حدا بي إلى مغالية آلام يدي والهرع لإنقاذ أخي الفاقد الوعي... أسرعت إلى صيدلية المنزل لأحضر صندوق الإسعافات الأولية، وخلال لحظات من محاولة إنقاذه أفاق الطفل باكيا مرتعبا... ضممته إلى صدري وأنا أسمع أبي يصرخ وهو يركل زوجته بقدمه...
- أنت طالق... هيا هاتفي أخوتك ليحضروا ويأخذوك.
ثم صفق الباب وخرج...

تعاونت مع الخادمة في إسعاف الأطفال ووالدتهم وتهدئهم... كانت الأم محطمة تماما بلا ضلع واحد سليم وقد توقفت عن البكاء، وبدت كالغائبة عن الوعي. تصرفت بسرعة فهاتفت شقيقي صالح وأبلغته ما حدث بإيجاز...

ساعة وكنا في المستشفي المركزي بعد أن روى صالح للأطباء قصة خيالية عن سقوط الأم من الدرج حينما داهمتنا نوبة دوار طارئة ثم تبعها بعض الأطفال خوفا على والدتهم...

أيضا اتصل صالح بأشقاء زوجة أبي ليكونوا إلى جوارها في المستشفي... وما إن انتهي من المكالمة حتى التفت إلي قائلا:
- هيا يا أحلام... لقد انتهي دورنا عند هذا الحد...
صرخت قائلة باستنكار:
- ونتركها وأطفالها بهذا الحال المزري؟
تكلم صالح بهدوء:
- لا تنسي لقد طلقها أبي... ثم حينما يعلم أبي بأمرنا ماذا سيكون الحال؟... أعتقد سيكون أسوأ من حال زوجته...
- لكننا لا نعلم حتى الآن لماذا فعل بها ما فعل وطلقها أيضا...
- أرجوك يا أحلام... أبعدينا عن هذه المشاكل برمتها...وستعرفين كل شئ في حينه... هيا ... ولا تنسي عندما يسألك أبي أن تخبريه بأن أشقاء زوجته هم الذين أخذوها من البيت... هيا...

وقفت في الظلام ألتقط أنفاسي... البيت خاو على عروشه وقد هدأت العاصفة التي كادت تطيح به قبل قليل وتهز بأركانه... وتلاشى الصراخ والضجيج وصوت العصا الغليظة وهي تهوي على أجساد ضعيفة لتمزقها...

لكن بقيت الأشلاء ورائحة القسوة تعبق بالمكان برائحة كريهة أصابتني بالغثيان. فمهما يكن نوع جريمتها يا أبي فليس هكذا يكون العقاب... أسلوب همجي بدائي يتساوى فيه الإنسان ذو العقل والإدراك مع الحيوان الأعجمي الذي لا يملك عقلا... عودة إلى قرون الجهل والظلام كإنسان غجري لا يملك سوى قوته... المصيبة ليست في ضرب المرأة بل الأفدح منها هم الأطفال الأبرياء ونفوس تتمزق بلا رحمة ولا شفقة... كيف سيواجه هؤلاء الأطفال المستقبل... بقلوب كسيرة وجروح غائرة لا تندمل فرغم شبابي واشتداد عودي أشعر بالوهن في عظامي بعد هذه المعركة غير المتكافئة. يداي وقدماي ترتجفان بشدة وجسدي متهاو وآلام شديدة في ذراعي... لكن آلامي النفسية أكبر وأقسى... فكيف سيكون حال الأطفال وأمهم تضرب أمامهم ومن أبيهم وكلاهما رمز كبير لقيمة كبرى لا يستهان بها... إن ما حدث أمامهم سيبقى عالقا في ذاكرتهم أبد الدهر يغذيهم ألما ومرارة ويفقدهم الأمان في حياتهم القادمة... كانت مشاعري دوما حيادية تجاه زوجة أبي وأطفالها ولا روابط عاطفية من أي نوع كانت تربطني بهم بيد أن الضربة الأخيرة كانت قاصمة، ففجرت ينابيع الأحزان داخلي فأحسست فعلا بأن زوجة أبي مهيضة الجناح، فلم يحدث طوال حياتي معها أن مستني بشئ ما أو أوغرت صدر أبي علي أو فتحت المشاكل من أي نوع... كما أنها لطيفة معي اجتماعية متفاعلة وليست كأمي، أيضا هي جميلة خلوقة وتصغره بكثير ولم يسبق رأيت بينهما خلافا أو خصاما إلا فيما ندر وباستتار نوع ما... لكن ما حدث أمامي فاق كل عقل وكل تصور وتعدى كافة الحدود... أيقظني رنين الهاتف من تأملاتي... وما إن رفعت السماعة حتى فوجئت بها... إنها زوجة أبي... تدافعت الكلمات في جوفي فلم أدر ماذا أقول... أخيرا نطقت... حمدا لله على سلامتك... كيف حالك الآن؟
بصوت واهن مرتجف أجابت:
- الحمد لله ... أحسن ... اطمئني... الأطفال أيضا بخير... أين والدك الآن؟
- لا أحد في البيت سواي...
تهدج صوتها ثم بكت وهي تقول:
- صدقيني يا أحلام ...أنا مظلومة وبريئة، مما يتهمني والدك به... لست أنا من تفعل هذا أبدا أبدا حتى ولو فيه موتي ... أنت تعرفيني جيدا ثم إنني زوجة وأم لخمسة أطفال...
قاطعتها بجزع:
- أنت تعرفين أن سخان المياه في حمام حجرتي قد انفجر منذ فترة قليلة... فاتفق والدك مع سباك لإصلاحه... السباك حضر اليوم صباحا بعد خروج والدك من البيت وطلب أن يدخل لإصلاح عطل السخان لأن لديه موعدا آخر بعد ساعة...

حاولت أن أطلب والدك هاتفيا، لكنني لم أجده فاضطررت، لإدخال السباك وتواريت أنا وبعض الأطفال في المطبخ لحين انتهاء الرجل من عمله وأيضا لتناول طعام الفطور. بعد فترة حضر والدك وفوجئ بوجود الرجل في البيت وفي حمام حجرة النوم... طرده لكنه لم يعطني أي مجال لأتكلم ... لأدافع عن نفسي... عن أطفالي والخادمة يشهدون بأنني لم أقابله ولم أر حتى هيئته... فقد فتحت له الخادمة الباب وأوصلته إلى المكان بنفسها... إنني مظلومة يا أحلام...

وانتحبت بعنف على الطرف الآخر من الهاتف ... لم أستطع مواساتها والتخفيف عنها، فكل كلمات البشرية تتضاءل أمام ظلم الإنسان وتجبره وقسوته... لقد قتلها بظنونه وسحق كرامتها وكبرياءها بقدميه ثم جاءت ثالثة الأثافي فطلقها بدون أي ذرة عقل أو تفكير... ألهذا الحد يصل أبي في إلغاء والعقل والمنطق والاحتكار لشريعة الغاب في المحاكمة والتصرف؟ ألهذه الدرجة يفتقد أبسط مقومات الاتزان والثقة بالنفس...؟ لقد عاشت معه أكثر من خمسة عشر عاما... ألم يتأكد خلالها من إخلاصها وطهارة ذيلها ونقاء سريرتها.. ألم يعلم أية امرأة هي خلال كل تلك السنوات..؟ إن عاما واحدا من العشرة تبين حقيقة الإنسان وأصالة معدنه وطيبته أو خبثه فكيف بسنوات طويلة بحلوها ومرها وأطفال خمسة وحياة حافلة بالأحداث المتنوعة... أيلصق بها هذه التهمة البشعة من أجل شك... سوء نية؟ يا له من جبار معتوه... ألم يفكر، ألم يتدبر... ألا يسأل من حوله... ألا يتحرى الحقيقة والصدق من الكذب؟ إنه يختال بقوته، بصحته، بقدرته على فعل كل شئ دون أن يحاسب على شئ... لكن لا يا أبي، فالقوة ليست في البطش، واليد العليا القوة في الحنان والرحمة، في التفكير العقلاني ... في الاتزان .... التروي... والحكمة...

انتشلني صوتها البعيد من أفكاري...
- أحلام... هل تصدقينني؟
- بالطبع يا أم بدر أصدقك... وأتمنى لو أن أبي تأني وفهم الأمر على حقيقته قبل أن يفعل ما فعل... لكن اطمئني فالحق لا بد أن يظهر... شمس الحقيقة لا تغيب طويلا...

كلمة أخذت أرددها بيني وبين نفسي بعد أن انتهت مكالمتي مع زوجة أبي، ثم هاتفت أخي صالح وأبلغته بكل ما حدث... سألته النصيحة قال إنه سيحاول إفهام أبي حقيقة الأمر...

لم أضيع الوقت، أسرعت إلى الخادمة وسألتها عما حدث صباحا، فحكت لي كل شئ بالتفصيل كما روته زوجة أبي... يالها من زوجة بائسة مظلومة... لو كنت مكانها لفرحت بالتخلص من أبي وسجنه البغيض ذي القضبان الحديدية المتهالكة وأسرعت بالفرار إلى مكان آخر في العالم لا أراه فيه.. لكنها أم وللأمومة حسابات أخرى لا أعرفها...

تضاعف إحساسي بالحنق تجاه أبي... فلم أدر شعوري الطبيعي تجاهه... هل هو ود... أم حقد... تقدير... أم تحقير... احترام وإجلال... أم مقت وازدراء؟ لم أعرف مشاعري الحقيقية تجاهه لكنها بكل تأكيد تختلف عن مشاعر أية فتاة تجاه والدها...

لن أحادثه في أمر زوجته ولن أف أمامه بخنوع أترافع عنها ليرحمها ويعيدها إلى زنزانته الحقيرة... لن أعيش موقف الذليلة المهانة أسأله الصفح والغفران لإنسانة بريئة مظلومة هو يعرف أكثر من أي شخص آخر مقدار عفتها ونزاهتها. لن أسقط في نظر نفسي مرتين... مرة بدفاعي عن شخص فتها برئ والأخر بالتوسل لظالم لا يعرف الرحمة... شمس الحقيقة لا تغيب طويلا بي أو بدوني كل شئ سيظهر وتتجلي الحقيقة الساطعة...

رأيته يدخل البيت بهدوء... وسحب من الظلام قد تكثفت في وجهه الشاحب ... شعور بالإشفاق حل داخلي تجاهه بعد أن رأيته يحادث الخادمة مطولا ثم ينكس رأسه بأسي... تبخر غضبي منه فاقتربت غير عابئة برفضي السابق ... وقفت خلفه صامتة... رفع رأسة تجاهي ... بادرته قائلة:
- إن أم بدر مظلومة يا أبي... إنها لا يمكن...
قاطعني بهدوء مثير...
- أعرف يا أحلام... أعرف...



وللقصة بقيه.................




_________________________

الجزء التاسع



طوال الطريق في رحلتنا إلى المدرسة وأنا أفكر ... لم أنتبه لصباح وكلامها الكثير عن خطيبها... أغلب الزميلات كن نياما... وأنا غارقة في لجة من الأفكار العميقة التي تقودني إلى وديان سحيقة... لقد هزتني الأزمة الأخيرة بين أبي وزوجته وأوضحت لي أشياء ما كنت اعرفها وخبايا يصعب علي الاطلاع عليها لولا هذه الطاقة من الضوء.. إن أبي غيور شكاك وانفعالي.... لقد كاد يقتل زوجته وطلقها وحطم أطفاله وهدم البيت على من فيه لمجر شك... فقط وهم ... إذن ماذا يفعل حينما يعلم بقصة هذا الشاعر الذي يطاردني ويحاول نسج خيوط خفية من الحب المتبادل معي... المشكلة ليست في الشاعر وإنما في عدم ممانعتي لذلك وتقبلي للأمر بسهولة شديدة وكأنني أرحب به... فكتابه الأول الذي بعثه مع شقيقته كان يحمل أولى الرسائل وترمومترا لقياس مدى استجابتي... لقد فاق رد فعلي كل توقعاته، فقد كانت استجابتي مذهلة... تقبل وصمت... الصمت في أعرافنا يعني القبول والرضا فتمادى أكثر وأرسل كتبه كلها مع كلمات شعرية تعبر عن الحب من أول نظرة وربما لو صمت هذه المرة لجاء بنفسة ليحادثني... ويحي... ماذا يظن بي هذا الشاب... ترى هل يعتقد أنني فتاة مستهترة من بنات المدن الوقحات الخليعات اللاتي يعاكسن الشباب بسهولة ويسر كما يشربن الماء؟ ترى هل يعتقد أنني فتاة لاهية ضائعة تستجيب لأول رجل يطرق بابها؟ كلا... يجب إفهامة الحقيقة... وتعريفه حقا من هي أحلام ومن هو والدها...

أفقت على هزة من يد صباح وهي تقول:
- أحلام... هل نمت... هيا فقد وصلنا المدرسة...

دخلت وأنا مثقلة بأفكاري... مقيدة بأوهامي... مشتتة النفس... ممزقة الأهواء... وقفت أمام المرآة أصلح هندامي كعادتي كل صباح حين وصولنا للمدرسة... كانت المرآة عبارة عن قطعة زجاج مكسورة مثبتة بمسمار صدئ على الجدار الطيني... كنت أرى فيها نصف صورتي وإذا انحنيت قليلا أرى فيها صورتي كاملة إلى حد ما... ابتسمت وأنا أتذكر معاملة أبي لزوجته حينما أعادها إلى البيت... لم أتصور أبدا أن يعيدها بهذه السرعة المذهلة... أيضا هي كيف تنسى كل شئ وتعود معه، وكأن شيا لم يحدث، وكأن جسدها يتحطم على يديه ولا كرامتها تبعثرت بين قدميه... وأطفالها تمزقوا لغياب عقله واتزانه... إنه لم يحترم عشرتها معه ولا قدر سنوات سعادتهما سويا... ونسف الماضي ورصيد الحب بلحظة شك واحدة وأطاح بكل شئ في غمضة عين فكيف تأمن لحياتها معه بعد ذلك...؟ وكيف تحمي عشها من الانهيار تحت أية هفوة أو أي اشتباه من هذا النوع...؟ لكنها سعيدة بعودتها... سعيدة رغم آلامها النفسية والجسدية وهو يعاملها بمنتهى الرقة والاحترام...

ترى هل هي تحبه لدرجة أن تغفر له كل زلاته وهفواته، أم أنها تريده لأجل أطفالها، أم لأن لا معيل لها غيره، فقد توفي والدها وتفرق أخواتها كل في بيته. هل هو بالنسبة لها مجرد أب وسكن ومال أم أن الأمر أكبر من ذلك بكثير...؟ امرأة أخرى في نفس سنها وجمالها ما كانت تعود إليه ولو بذل الدنيا تحت قدميها فما فعله بها كثير...

أكبر من قدرة أي إنسان على التسامح والغفران وأقوى من قدرته على النسيان ما فعله سحق كرامتها وكبريائها كامرأة وشك بأخلاقياتها وتربيتها كابنة أسرة عريقة واستهانة بدورها وعاطفتها كأم... فأية بشاعة أكثر من هذه وأية تضحية كبرى هي مقدمة عليها... لكن أملي ألا يخيب أبي رجاءها وألا يجعل تضحياتها تذهل سدى وأن يتمسك بها كما تتعلق هي به... لكنني لم أسأل نفسي أبدا هل يحبها أبي؟ لقد آمنت بهذا كشيء مسلم به فقد تزوجها على أمي ونسينا تماما حينما تزوجها... ثم أتي بها لتعيش على أنقاض بيت المرحومة أمي، وكان يقدرها وينظر لآرائها بعين الاحترام والإجلال حتى أنها قد غيرت كثيرا من أقدارنا أنا وأخوتي، فما كان شئ أن يتم إلا وكان لها اليد الطولى فيه لكن الحدث الأخير زلزل كل معتقداتي وأجبرني على الانحياز فقد اتضح أنها في حياة أبي شئ مملوك لا تقدير له لا احترام، لا رأي له ولا صوت... كقطعة أثاث... أو كجهاز كهربائي أو مقعد... شئ تبقي قيمته بقدر ما يفيد، ثم يلقي به في أقرب سلة مهملات... مسكينة هذه المرأة، فبقدر ما أشفق عليها وأرثي لحالها فإنني أكره ضعفها وخضوعها وأتمني لو استطاعت الإمساك بزمام الأمور يوما ما... لكن يبدو أن أبي فيه سحر ما يسلب فيه نساءه من إرادتهن ويجعلهن طوع بنانه...

ابتسمت لصورتي في المرآة... فاجأني صوت صباح:
- ألن تكفي عن استعراض جمالك في هذه المرآة المكسورة؟ لقد انتظرتك طويلا...
ابتعدت وأنا خجلة بينما تابعت صباح قائلة:
- أخبريني بصراحة... هل تقدم أحد لخطبتك؟ فإنني أراك ساهمة غير طبيعية حتى أنني في السيارة استشرتك في أمور كثيرة ولم تردي علي إطلاقا...
اغتصبت ابتسامة وأنا أقول:
- سأحاول يا صباح أن أرد على استشارتك ونحن في طريق العودة إن شاء الله... عن إذنك الآن سأحضر الدرس القادم...

وما إن سرت خطوات حتى طلبتني المديرة وأخبرتني بأن زميلتي عواطف غائبة ويجب أن أحل محلها الحصة الأولى...

دخلت الفصل واجمة فقد رأيت وضحى بين الطالبات ترمقني وفي عينيها بريق. ترى ماذا يدور بمخيلتها عني...؟ هل تتبني فكرة أخيها عني بأنني فتاة سهلة منحلة، أم تقدرني وتحترمني؟ لكن كيف يتطرق الاحترام إلى نفسها وشقيقها يبعث لي برسائل حب... كلا... لن أسمح له بالتمادي... اشتعل الغضب في عيني ولم أدر كيف أدافع عن نفسي ولا متى وأين؟ ما إن جلست على المقعد في الفصل حتى اقتربت مني وضحي... كانت خجلة، خائفة، نظراتها غير طبيعية وكأنها تخفي شيئا ما، سألتها وأنا أتحاشى النظر إليها:
- كيف حال أمك يا وضحي؟
- الحمد لله .
- هل تذاكرين دروسك جيدا... فالاختبارات على الأبواب...

أطرقت ولم تجب... التفت إليها فجأة دست في يدي شيئا ما وعادت إلى مقعدها... اضطربت بشدة وأنا أنظر لبقية الطالبات، لكنهن لم ينتبهن إلى ما حدث... دق قلبي بقوة وأنا أتفحص هذا الشيء الذي أعطته لي وضحى في غفلة من زميلاتها... كان دفترا وردي اللون بتفرعات خضراء صغيرة، ينتهي بأسلاك دائرية فتحت أول صفحة ليندفع الدم ثائرا إلى رأسي ويحتقن وجهي بشدة، فقد كتب الشاعر بنفس خطه الأنيق كلمات واضحة لا تحتاج إلى تفسير:

إلى أ.ع
امنحيني لحظات فقط
وسأمنحك العمر كله
الأربعاء – الرياض- 9 مساء ت 4776234

إنه وبكل جرأة ووقاحة يعطيني موعدا هاتفيا في الرياض، حيث سيكون هناك على هذا الهاتف الساعة التاسعة مساء يوم الأربعاء المقبل... يا له من معتوه أبله... لكنه محق في طلبه... فكل الشواهد تدل على قبولي واستسلامي وترحيبي بأي شئ... امتلأت نفسي غضبا وغيظا كدت أمزق الدفتر وألقيه في سلة المهملات أمام وضحى وبقية الطالبات لكنني خفت الفضيحة ، فأدني الأشياء التافهة هنا تعظم وتكبر حتى تغدو على لسان أهل القرية بأسرها، يتناقلها الصغار قبل الكبار... الرجال والنسوة... كتمت غيظي داخلي وأنا أغلي كمرجل من شدة الغضب وفي أعماقي يتردد سؤال كيف أرد له الإهانة بأعظم منها وأبين له كيف يعامل بنات العائلات المحترمة...؟

فلو أن شابا ما رأي شقيقته وضحى ولو بطريق الخطأ لقتله هذا الشاعر الرومانسي وقد نسي كل مؤلفاته الخمسة وآراءه الكاذبة بالحب والعواطف ... فكيف يريد لغيره ما لا يريد لنفسه؟

سألتني إحدى الطالبات:
- أبله ... متى سيكون اختبار مادة القواعد؟
رفعت وجهي المحتقن بشدة... تلجلجت قبل أن أرد:
- نهاية هذا الأسبوع سأحدد لكن الموعد...

أنت أيضا أيها الشاعر الأحمق نهاية هذا الأسبوع سيكون موعدك معي... إنها فرصة لي لألقنك درسا لن تنساه مدى الحياة وستتوب بعدها ولن تعترض لأية فتاة حتى ولو بدأت هي بالمطاردة، فدرسي أيها الشاعر كبير... كبير بحجم خطتك وعظيم بعظم خطيئتك وقاس كقسوة إهانتك، وسترى إن شاء الله... ابتسمت الطالبات وهن ينظرن باتجاه الباب... تابعت نظراتهن لأرى زميلتي فوزية ضاحكة وهى تقول:
- أحلام... أين كنت؟ إنني أقف هنا منذ دقيقة أتأملك وأنت غارقة في أحلام اليقظة...
ثم اقتربت هامسة:
- هيا اخرجي ... فقد بدأت حصتي...

خرجت بعد أن وضعت الدفتر الصغير داخل دفتر التحضير الكبير الخاص بي... وحالما انفردت بنفسي وخلت حجرة المعلمات منهن عدا اثنتين يتلحفن بعباءتهن وينمن باستغراق شديد ... فتحت الدفتر الصغير.. طالعتني رسالة الشاعر الثالثة والتي سأجعلها الأخيرة... تخطيت الصفحة الأولى " الموعد" إلى الصفحات التالية.

كانت أشعارا مطولة وخواطر جميعها تتحدث عن الحب من أول نظرة والعشق والهيام... كلها رسائل غرام مغلفة بأسلوب شعري راق... ربما تكون مخطوط كتابه المقبل، لكن ماذا يهدف من إرساله لي؟ عن علاقته بي تتطور بشكل خطير وإذا لم أضع حدا لها فإنها ستشكل خطرا يقضي على حياتي ومستقبلي.

عدت إلى بيتنا ذلك اليوم ممزقة حائرة، تتناهبني الهواجس وتفتتني الظنون... ترى هل حكت وضحى لزميلاتها ما يحدث بيني وبين شقيقها على سبيل المباهاة... فهم في تلك القرية النائية يفتخرون بأي شئ له صلة بالعلم والتحصيل حتى ولو كانت علاقة أخيها بحارس المدرسة... ترى هل تكلمت تلك الفتاة الصامتة ووشت عيناها بما لم يستطع لسانها أن ينطق به؟ فتلاقفته الطالبات لينتقل من ثم إلى الأهالي ثم إلى معلمات المدرسة ومديرتها فينظرون لي شزرا مع أنني لست بخاطئة ولا مجرمة، لكنها القوانين والعادات القبلية التي تفخر بشاب من هذا النوع وتعد عمله بطولة تستحق الإشادة وتنظر للأنثي بتحقير وإهانة ورغبة في وأدها وهي على قيد الحياة... ترى هل أسرت وضحى لصديقتها المقربة باستسلامي وخضوعي... وكيف كنت أتقبل خطابات الحب برغبة ولهفة دون ضيق أو غضب .. حنقت على نفسي وقتها... لو ثرت مرة واحدة فقط، لو رفضت استلام أي شئ من شقيقها لمجرد انه رجل... لو مزقت الدفتر الأخير وألقيته في سلة المهملات أمامها لربما تغيرت نظرتها لي وازداد تقديرها وإعزازها لي... لكن الآن وفي هذا الموقف الذي لا أحسد عليه ستكون سمعتي سيئة ونزاهتي مشكوكا فيها وكرامتي مجروحة....

فحتى ذلك الوقت الذي سأنتقم فيه لكرامتي لن أنظر في عيني وضحي المتسائلتين ولن أحادثها بكلمة وسأتحاشى كل ما من شانه فتح حوار جانبي معها...

فوجئت بطرق على باب حجرتي... طرق خفيف ناعم لكنه مسموع... فتحت الباب برقة، كانت الخادمة تنبئني بمن يطلبني على الهاتف... أسرعت بالنزول إلى الطابق الأرضي حيث الهاتف وأنا أتوقع شقيقتي بدرية التي كثيرا ما تحادثني راغبة في الفضفضة والتخفف من أحزانها ومسؤولياتها الجسيمة... فلا صديقة لها سواي... وهي تمثل لي كل شئ .. الأم والشقيقة و الصديقة والابنة وأحبها كمل لم أحب بشرا سواها ولا حتى أمي....

التقطت السماعة ضاحكة:
- أهلا بدرية...
فاجأني صوت واجم... ثقيل ... بارد...
- لست بدرية يا أحلام... أنا صباح....
- أهلا صباح ... كيف حالك... هل أنت مريضة؟
جاءني صوت بكائها على الطرف الآخر ... حارا ... يائسا... موجعا.
- صباح ... ما بك؟
قالت ونشيجها العالي يخترق أذني:
- لن أحضر في الغد يا أحلام، أبلغي السائق ألا يمر علي...
- ماذا حدث يا صباح؟
انتحبت مرة أخرى وهي تقول:
- لقد فشل مشروع زواجي وانسحب خطيبي إلى الأبد... لقد مات يا أحلام ولن أتزوج أبدا... أبدا...

__________________________________________________ __________

>>>> الرد الثالث :
الجزء العاشر





أشرقت السعادة في بيتنا وانبثقت السحابة الغائمة عن مطر غزير اكتسح طريقه كل شئ حتى أحزننا... فوجئت حينما عدت ظهرا من المدرسة بحركة غير عادية في البيت... أخواتي متأنقون في ملبسهم تعيق من أعطافهم رائحة العطور... في المطبخ عدة أصناف من الطعام لم تحدث في بيتنا سوى في المناسبات... البيت مرتب نظيف يفوح برائحة البخور في أرجائه... همست لزوجة أبي مازحة:
- أم بدر... ماذا حدث؟ هل تزوج أبي مرة أخرى... أم ماذا؟
ابتسمت برقة وهي تقول:
- أليس في وجودي كفاية؟
ثم أردفت قائلة:
- أخوك خالد... لقد حضر من تبوك اليوم صباحا...
صرخت فرحة:
- حقا... هل حضر بمفرده... أم بصحبة عائلته... هل.. أين هو الآن؟
ضحكت زوجة أبي قائلة:
- رويدك... رويدك فأنا لا أستطيع الإجابة على جملة أسئلة... عموما هو الآن يخلد للراحة... فقد حضر متعبا من رحلة طويلة بالسيارة مع بعض رفاقه كما أخبرنا بذلك...

رغم تعبي وجوعي الشديدين فقد صممت ألا أرتاح ولا أكل شيئا حتى أراه أولا.

صرخت فرحا حين رأيته باتجاهي... ألقيت نفسي في أحضانه مبتهجة وأمطرته بوابل من الأسئلة عن زوجته وأولاده وعمله ومدينته الصغيرة وحتى جيرانه وأصدقائه... ضحك وهو يقول:
- أمهليني قليلا حتى أتنفس.

تناولنا الغداء مع أبي في جو من السعادة والحبور... علمنا منه أنه سيمكث معنا يومين فقط ثم يعود إلى مدينته وعمله...

بعد الغداء وخلود أبي وزوجته للنوم جلست مع خالد نشرب الشاي ونتحدث... تحدثنا كثيرا في كل شئ وحكى لي عن زوجته وطفليه " عبد الرحمن وريان" والقادم الجديد الذي يأمل أن تكون بنتا يسميها على اسمي...

لاحظت ارتجاف صوته وهو يحكي عن طفليه، خمنته الشوق لهما واللهفة على لعبهما وشقاوتهما... ثم تطرق إلى عمله ومشاكله مع زملائه ... ومدينته الرائعة الصغيرة ثم سألني أن أحضر لزيارتهم... كان سؤالا غير جاد لأنه يعرف أبي وأنه لا يحق لي الخروج من بيت أبي إلا لبيت زوجي ومن ثم إلى القبر... أعتقد أنه يذكر جيدا تلك الزوبعة التي أثيرت منذ سنوات خلت، حينما دعتني شقيقتي بدرية لأنام في بيتها ليلة واحدة معها وأطفالها فقد كانت أرملة... يومها قامت الدنيا ولم تقعد ولم يترك أبي كلمة من قاموس الشتائم والكلمات النابية إلا وأطلقها على شقيقتي بدرية... أرغى وأزبد هدد وتوعد ثم حلف وأقسم ألا أخرج من البيت أبدا في حياته...

سألت "خالد" إذا كان يحمل صورا لأطفاله... اهتزت رموش عينيه ثم اكتسى وجهه بحزن شديد... ارتجفت يداه وهو يخرج الصورة الوحيدة من حافظته الجلدية...

بهرتني البراءة المرسومة في الأحداق الصغيرة والجمال الطفولي المميز. كانا يجلسان على مقعد خشبي في حديقة جميلة... عرفت الأكبر عبد الرحمن فقد كان صورة طبق الأصل من خالد بعينيه الواسعتين وفمه الصغير ولونه الخمري بشعر أسود حريري... ريان كان يختلف عن شقيقه كثيرا، فقد كانت ملامحه دقيقة صغيرة وشعره فاتح اللون أجعد... ابتسمت برقه وأنا أقول:
- ريان يشبه والدته أليس كذلك؟
ضحك خالد قائلا:
- أنت ذكية يا أحلام...
أجبته بابتسامة واسعة:
- أيهما تحب أكثر؟
فوجئت ... بل صعقت... التمعت عيناه بالدموع وبصوت ليس صوته قال:
- كما قالت أعرابية حينما سئلت يوما: أي أطفالك أحب إليك؟ فأجابت: الصغير حتى يكبر والغائب حتى يعود والمريض حتى يشفى...
ازدادت دهشتي وأنا أساله...
- وهل لك غائب ليعود؟
قاطعني:
- بل لي مريض أتمني شفاءه...
صمت... وصمت هو أيضا... لم يكن صمتنا متطابقا أو متشابها أبدا...
صمت خالد لأنه بكى.. بكى بحرارة وألم ... بكاء الرجل الذي انهار أخيرا بعد مقاومة جلد... بكاء يأس وحيرة وضياع...

بكاء لمريض لا يرجى برؤه.. بكاء منبعث من نفس صدئة من أعماق مبعثرة. دموع غالية تخرج من نفس ممزقة، كالبترول يخرج من الصحراء الخاوية...

صمتي كان خوفا أكثر منه تقديسا... رهبة تفوق الاحترام... هلعا يعلو على أي كلام... هل هو السرطان المخيف؟ كلمات وشت بها عيناي الدامعتان لأرى في انهياره ألف نعم ونعم ... وعلى واحد من حبتي قلبك، وضع الوحش رحاله؟! أيهما البراءة المخطوفة ببراثن المجهول... ترى من منهما يحلق طائر الموت على رأسه ويترقب لحظته الدانيه، هل هو الأسمر ذو الوجه الحبيب أم الآخر الشقي الأجعد الشعر؟ لهفي عليك يا أخي وهذا الحزن المرير يعتصر قلبك عصرا... لكن ... أما من شفاء... أما من دواء ولو كان في آخر الدنيا.. أما من أمل ولو بعيد ضئيل لطرد شبح هذا المرض القاتل وقمعه للأبد...

سألته وفي صوتي رجفة وفي عيني دمعة وفي قلبي انطلقت طيور الأحزان:
- خالد... بالتأكيد يوجد دواء... ليس هناك داء ليس له دواء...
ابتلع دموعه الكثير وأجابني بصوت مخنوق:
- إنه سرطان الدم يا أحلام... هذا المريض الوحشي الغادر... لقد أصيب به عبد الرحمن من أشهر مضت...
تعالت الشهقات داخلي... إذن هو عبد الرحمن ذو الوجه الأسمر الحبيب الطفل ذو السنوات الأربع وخيبات سنوات مقبلة لا ندري كم عددها...
تابع خالد بأسى:
- لقد انتابته حرارة مفاجئة، في البدء ظنناها حمى عابرة أو مرضا طارئا كغيره من الأمراض... احترنا واحتار معنا الأطباء حتى أدركنا تشخيص مرضه الحقيقي... ومنذ ذلك اليوم ونحن ندور في حلقة مفرغة من العلاج بدون جدوى...
ابتلعت غصة ألم وأنا أقول:
- بالتأكيد يوجد أمل ...
برقت عيناه... لا أدري أكان أملا، أم دمعا... ثم قال:
- هناك أمل ... ولكن في جراحه صعبة بالخارج تتكلف مبالغ طائلة...
قاطعته بفرحة:
- خالد... لايهم. أجمع نقودا.. بع كل شئ لديك حتى ملابسك ... استدن... تسول .. المهم أن يشفى عبد الرحمن...
وأد فرحتي حين قال:
- أنا محدود الإمكانات يا أحلام... تعرفين بأنني قد بنيت نفسي بنفسي ولم يساعدني أحد... درست ... عملت ... تزوجت .. وقد خسرت الكثير في علاج ابني ... خسرت كثيرا لدرجة قد لا تصدقينها... أنت لا تعرفين أنني لا أملك بيتا خاصا بي وإنما أستأجر سنويا بمبالغ كبيرة... لقد بعت يا أحلام ... بعت من أجل شفاء ابني كل ما أملكه حتى مجوهرات زوجتي القليلة وأشيائي الصغيرة ... استدنت.. كل أصدقائي أنا مدين لهم ولا أدري متى سأسدد هذه الديون وقد تسولت يا أحلام. نعم فقد وصل بي الأمر إلى التسول وعقد أحد الزملاء ندوة تبرع لأجلي... ماذا أفعل أكثر من ذلك؟ إن ابني يذبل أمامي ونهايته المرتقبة تقض مضجعي والأمل موجود، لكنه بعيد بعيد كبعد شطحات أحلامي عن واقعي التعس... وزوجتي حامل وبحاجة إلى كل رعاية ومساندة... ولا أدري كيف أتصرف؟
أطرقت والحزن يعتصرني ثم أجبته داعية:
- خالد أبي لن يتخلى عنك وسيساعدك حتما... أنا واثقة من هذا ... نحن معك يا أخي في معركتك ضد هذا المرض الشرس وسينصرك الله حتما... وأبي سيساعدك بكل ما يملك... فأنت ابنه وطفلك حفيده الذي يحمل اسمه...
أجاب خالد بوجوم:
- من أجل هذا أنا هنا يا أحلام... سأطلب من أبي المساعدة.

خفق قلبي بجنون وأنا أري خالد شقيقي ينتحي بأبي جانبا... وأسرعت كيلا أراهما ، أرى الانكسار في عيني أخي خالد، وربما الدهشة والألم في عيني أبي.. ترى هل يتقاعس أبي عن مساعدة خالد ابنه في ظرف كهذا ... ويحي كلا .. كلا ... يستحيل أن يرفض أبي إنقاذ حفيده من الموت كن أجل حفنة من النقود، وهو من يملك الموال الطائلة والعقارات في كل مكان من بلادنا الشاسعة... ولأول مرة أتساءل ... ترى ما علاقة أبي بأبنائه أو علاقته بخالد بالتحديد؟

إن علاقة أبي بنا جميعا علاقة الملك برعيته... الحاكم بالمحكومين، ومن يتمرد عليه أو يخرج عن طاعته فقد انتهى من رعايته إلى الأبد... وهذا ما حدث من خالد من زمن ليس ببعيد.. فبعد أن عصفت المشاكل بيتنا وفقدنا الأمن والاطمئنان وأصبحنا نعاني الغربة في بيت ولدنا فيه تقدم أخي خالد لأبي يطلب منه أن يتم دراسته في كلية المعلمين بتبوك... غضب أبي واربد وجهه ثم رفض أن يدع أحدا من أولاده يغادره إلى أي مكان... تمسك خالد برأيه وصمم عليه مقنعا أبي أنه سيجد راحته هناك مع صديقه الوحيد الذي رحل مع أهله إلى تلك المدينة... اعتصم في حجرته رافضا الأكل والشرب ... ابتعد وانزوى حتى رضخ أبي لقراره، وقال له بغضب: اذهب إلى تلك المدينة كما أردت، لكن لا تنتظر مني أي مساعدة في أي شئ تطلبه ولو قرشا واحدا... أتفهم؟ وقد فهم أخي ولم يعترض على شئ ، بل لم يهمه من أمر أبي شئ فسافر سعيدا مبتسما آملا مستقبلا زاهرا بعيدا عن أبي وزوجته ومشاكل تغص بها قلوبنا الصغيرة... لكن أخباره المطمئنة بدأت تسكن حروق القلب وجروح النفس، فقد درس في كلية المعلمين ثم تخرج فيها معلما وتعين في المنطقة نفسها... ثم تزوج فتاة متعلمة من عائلة مرموقة ، وأنجب منها...

وقد لحق به شقيقي حمد بعد عامين من رحيله دون معارضة جدية من أبي، وشق هو الآخر طريقه، فدرس ثم عمل وتزوج... ولم يدر بخلدي أن شقيقي خالد ممكن أن يتعرض لمحنة قاسية كهذه المحنة التي تعصف به وتكاد تقضي عليه....

طال الوقت به وبأبي وأنا أتشبث بحلم وردي.... حلم الأبوة الحانية الذي يضم أولاده تحت جناحه مهما كانوا ومهما فعلوا... إن أبي لن يتأخر في موقف كهذا ولن يقسو ويتجبر، فهو أب ويعرف جيدا مشاعر الأب الملكوم المهدد بفقد أحد أبنائه... لكن أبي لم يشعر بفقد ندى، بل ألقاها في مستشفي الصحة النفسية دون مشاعر واستلمها جثة دون أن يطرف له رمش، وواراها الثرى بلا إحساس. حتى أمي لم يذرف دمعة واحدة على فقدها، بل لم يشعر بأنه فقد شيئا ذا بال كأنما تعطل لديه جهاز التلفاز فاستبدله بآخر، فقد أحضر زوجته الأولي في نفس ليلة وفاة أمي دون أدني تأثر أو حزن!! ترى هل مثل هذا الرجل القاسي الجبار المتبلد الإحساس سيشعر بمصيبة فلذة كبده وسيسارع بمد يد العون له بكل ما يستطيعه من جهد وأموال، أم ... لا... لا .. أرجوك يا أبي.. أتوسل إليك ألا تخذل خالد وهو في قمة احتاجه لك... لا تخذل رجلا إنسانا كسيرا ممزقا أجبرته الدنيا على أن يمد يده لأي إنسان... لا تخذل رجلا أغلقت دونه الأبواب سوى رحمة الله... لا تخذل بائسا ضاقت في وجهه السبل حتى ولو كان ابنك!! أبي أبتهل إليك ألا تتركه يصارع العالم بمفرده ويدخل حربا غير متكافئة؟؟؟ هو والفقر وطفله المريض أحد طرفيها؟ وعلى الطرف الآخر مرض قاس لا يرحم. أ[ي إنك لو تخليت عنه في عز احتياجه لك فلن ينسي لك هذا طوال حياته ولن أنساه لك أنا أيضا...
سمعت صرخة قوية آتية من جهة صالون الجلوس، حيث أبي وأخي خالد. انقبض قلبي بشدة وأنا أستشعر شرا ما قادما. أسرعت لأجد خالد منكفئا على وجهه بحالة انهيار تام وأبي يردد غاضبا:
- ما شاء الله هذه آخر تربيتي وتعبي... يقول لي أعطني ميراثي منذ الآن...
صرخت بهلع:
- هل صفعته يا أبي؟
- إنه يستحق أكثر... إنه يستحق القتل...
- إنه مهزوم يا أبي... هزمته الدنيا والظروف... وهو بحاجة إليك بحاجة إلى حنانك وعطفك ووقوفك إلى جواره ... إنه بأزمة يا أبي... إن ابنه يموت...
صرخ بحدة:
- فليموتا كلاهما... ما شأني أنا... فليرثني بعد أن أموت وليس وأنا على قيد الحياة...
- أبي إنه بحاجة إلى مبلغ بسيط لعلاج ابنه وسيرده إليك بإذن الله عندما يشفى عبد الرحمن...
هدر بقوة وهو يغادر المكان:
- ليس عندي نقود له ولا لابنه...
- أبي... أبي...
ثم التفت إلى خالد وهو يحاول النهوض بصعوبة... حزن الدنيا يرتسم على وجهه اليائس وعيناه دامعتان مقتولتان... إنسان مهزوم بكل ما تعني هذه الكلمة...

مد يده إلي وهو يرتجف قائلا:
- مع السلامة يا أحلام ... سلامي إلى بدرية وصالح، فلن أستطيع زيارتهما...
صرخت في وجهه..
- بل تستطيع... لا تيأس يا خالد زر أخوتك وسيساعدونك... لن يتأخروا عن المساعدة، وأنا سأرسل لك كل مدخراتي المالية وما أملكه... صدقني يا خالد سيشفى عبد الرحمن بإذن الله...

ابتسم بمرارة وهو يودعني خارجا، ودموعه تحفر أخاديد من الأحزان داخلي وتخضر بذرة الحقد على أبي في نفسي لتنمو زهرة وأنا أراه يمرغ كرامة أولاده في الوحل حفنة من النقود... لقد خذلتني يا أبي!




وللقصة بقية .
_______________________________

الجزء الحادى عشر





أدرت قرص الهاتف بأصابع مرتجفة، وما إن وصلت لسادس رقم حتى وضعت السماعة مكانها... الساعة كانت تقترب من التاسعة وخمس دقائق مساء... تبا لي ... أين الشجاعة... أين القوة التي أستمدها من كرامتي كامرأة لا ترضى لأي كان أن يمسها بنظرة أو بكلمة؟ إن صمتي ليس له سوى معنى واحد أنني أطمع بالمزيد، وما المزيد إلا خدش لسمعتي كفتاة وإهانة لمكانتي كمعلمة محترمة... كلا... يجب أن أستجمع شجاعتي وألقنه درسا لن ينساه طوال حياته. نظرت للدفتر الوردي بحنق ثم أدرت قرص الهاتف للمرة العاشرة ربما ... جاءني صوت دافئ واثق يسألني من أكون ... تلجلجت بالكلام قبل أن أقول :
- لو سمحت أريد أن أحادث الأستاذ سعد عبد الله .
سمعت آهة ارتياح من الطرف الآخر قبل أن يقول :
- أهلا ... أنا سعد ... من يتحدث ؟
اشتد غيظي وغضبي للثقة العالية في صوته ، وكأنني انسقت إليه ووقعت تحت سحره ... فقلت له بنبرة عالية :
- أنت تعتقد يا أستاذ سعد أن الفتيات متماثلات ... لكن لا أنا لست مثلهن .... أنا بنت ناس تربيت تربية عالية وأخلاقي فوق مستوى الشبهات ، لذلك أرجوك أن تحفظ أدبك معي وأن تلتزم بأدب الحوار ... لقد قبلت كتابك الأول لأنني كنت في حالة نفسية يرثى لها ، وكتبك الأخرى فوجئت بها رغم أن وضحى قد وعدتني أن تهديني إياها ... وذلك الشعر السخيف الذي أرسلته ماذا تقصد به ؟ والله لو وقع في يد أبي لمزقك إلى قطع صغيرة ... ثم الطامة الكبرى تعطيني موعدا على الهاتف ... يا إلهي ... من تظن نفسك ، وماذا تظن بي ؟ إنني لست فتاة عابثة ولا لاهية ... وأنت ماذا أقول عنك ... إنك بلا ضمير بلا إحساس أنت ... ألا تشعر ؟ ماذا لو حاول أحدهم التحرش بوضحى ماذا تفعل بالتأكيد ستقتله ... إذن لماذا تعاملني هكذا لماذا ؟
أجهشت بالبكاء رغما عني ... جاءني صوته الدافئ كشمس تخترق الغيوم لتظهر ...
- كلا... لا تفهميني خطأ أرجوك... لست عابثا بدوري ولا أتسلي... لي أخت وأعرف كيف أحترم بنات الناس... لكن هل تسمحين لي بأن أعبر لك عما في داخلي بصراحة تامة...
خفت بكائي شيئا وأنا أستمع لكلماته... ثم غرقت في الصمت إزاء سؤاله، فلم بماذا أجبته... هل من الصواب أن أرد بلا فأجرح مشاعره بدون أن أعرف ماذا يريد قوله، أو أجيب بنعم فأبدو كالمتواطئة معه الراضية بكل شئ وأي شئ...
تابع قائلا:
- آسف جدا يا آنسة ولا أعرف كيف أعبر لك عن عمق أسفي لجرح مشاعرك وكرامتك. لكن الحقيقة إن سمحت لي بإبدائها سوف تبين لك كل شئ وبأنني لا أقصد سوءا من وراء ذلك.
قلت بصوت خافت:
- ماذا تريد أن تقول؟
علت نبرة الشجن في صوته وهو يقول:
- هل تصدقينني عندما أقول لك بأنني صعقت عندما رأيتك للمرة الأولى في بيتنا... لا أقول أحببتك من أول نظرة... كلا... فمشاعري أكبر من ذلك بكثير، كيف أعبر لك... كنت الفتاة التي أريدها إلي جواري طوال حياتي زوجة ورفيقة درب... صديقة وحبيبة... أما لأطفالي وربة بيتي وأولا وأخيرا ملهمتي التي لا أستغني عنها أبدا...
قاطعته بخجل:
- أرجوك!
تابع:
- بل أرجوك أنت... لا تظني بي السوء... فأنا لست من شباب المدن اللاهين العابثين... إنني قروي ابن البدو الذي لا يعرف
إلا الصدق والحقيقة وقد أحببتك وأردتك زوجة لي منذ أول لحظة رأيتك فيها...
صمت، وصمت بدوري... كان لصمتنا لغة أقوي من أي لغة في العالم... كنا لا نسمع سوى دقات قلوبنا وأصوات أنفاسنا اللاهبة...
همس:
- أحلام...
نبض قلبي بجنون وأنا أهتف:
- أرجوك... دعني الآن ... مع السلامة.
رد بصوت خافت وكأنما قد استنفد قواه...
- آسف مرة أخرى... مع السلامة...

ألقيت برأسي على الوسادة وجسدي كله يرتجف بعنف... ماذا حدث... وهل هذا ما أردته من مهاتفته... أن يسقيني حبه وعشقه وولهه كما تسقى الزهرة العطشى بالماء... أن يبث في أعماقي سمه الزعاف فلا يبقي ولا يذر... هاتفته لأقرعه وأشتمه وأصرفه عن طريقي بكرامة وكبرياء... فماذا حدث؟ وكيف أخطأت المهاتفة هدفها وأصبحت لقاء غراميا وبذرة حب تلقى في أرض مهيأة لتنمو وتخضر... ويحي، إنه لم يطلب علاقة غرامية بلا هدف، أو لهوا ينذر بمأساة... بل أحبني وأرادني زوجة له على سنة الله ورسوله، وأنا... ألم شراييني وسار مع الدماء باتجاه القلب ليستوطن كل جزء به... إنني أشعر بصدق كلماته، بتلقائية بوحه، بدفء عباراته وهذا ما دك حصوني واقتحم قلاعي المشيدة، فبت بالعراء معرضة لأية عاصفة أو سحابة عابرة تقصف أجوائي... رباه ماذا دهاني وما الذي غير الدنيا في عيني فبدت أجمل والسماء أشد زرقة والنجوم أكثر لمعانا؟ ما هذه الفرحة الغريبة الطارئة على عالمي؟ ما هذا الإحساس بالخفة والانتعاش الخدر والذهول وكأنني قد ابتلعت شريطا كاملا من الأقراص المهدئة...؟ غابت من ذاكرتي كل المآسي العالية، ودموعي التي ذرفتها لأجلها... لتبقي صورته الوحيدة في تلك الدار العتيقة عالقة بوجه ذاكرتي، تأبي الزوال وكلماته الناعمة تشنف آذاني كمعزوفة موسيقية رائعة أهدتني نوما هادئا قلما يتكرر مثله...

صباح السبت فوجئت بصباح تجلس إلى جواري في السيارة التي تقلنا إلى القرية. تبعثرت كلمات العزاء في جوفي، فلم أدر ماذا أقول لها ولا كيف أعبر لها عن ألمي وحزني لمصابها... بادرتني قائلة:
- لقد وجدت رقم هاتف أبي راشد مع إحدى زميلاتنا فهاتفته البارحة ليمر علي اليوم... لقد غبت عن المدرسة بما فيه الكفاية... أليس كذلك يا أحلام؟
ابتلعت ريقي بصعوبة باحثة عن كلمات رقيقة مواسية... لكنها تابعت قائلة:
- أتدرين يا أحلام... أن وفاة خطيبي عادل غريبة... فهل تعتقدين أنها عين شريرة عرقلت موضوع زواجي؟
قبل أن أتفوه بحرف أردفت برنة حزن دخيلة على صوتها:
- كان يجهز شقة الزوجية في ذلك اليوم المشؤوم... تقول أمه إنه كان يرتب غرفة النوم الجديدة ومعه عاملان وفجأة سقط على رأسه المكيف الذي لم يتم تثبيته جيدا... ونقل إلى المستشفي لكنه مات في الطريق. أليس هذا عجيبا؟!
فتحت فاهي لأنطق لكنها قاطعتني قائلة:
- الأعجب والأغرب من هذا ... أن والدته تعتبرني شؤما ووجه نحس، فلم يمت إلا حينما خطبني! أحلام أليس هذا قدرا مكتوبا... أليس هذا قضاء الله وقدره... ما ذنبي أنا...؟ لقد انتظرت طويلا طويلا، وحينما فرحت خنقت فرحتي وقتلت داخلي... أتدرين أن ثوب زفافي الأبيض معلق في دولاب ثيابي أراه ليل نهار يسخر مني... يهزأ بي، يثبت لي أني لن أتزوج مدى الدهر...
ثم بكت صباح... مضت تنشج بصوت مسموع وشهقاتها تكاد تمزق صدرها اليائس... ثم خرج صوتي وأنا أقول:
- صباح... ما هذا ... ألست مؤمنة بالله... ما هذا اليأس والقنوط؟ مات خطيبك لأنه ليس من نصيبك... ونصيبك آت بلا ريب، فما زلت صغيرة وجميلة، كما أنك متعلمة ومئات يرغبون بالزواج منك...
قالت بصوت متهدج بالبكاء:
- إنني يائسة يا أحلام... يائسة وحزينة ومحطمة، ولا أري حولي سوى السواد... لا أمل في ماض ولا مستقبل ولا حاضر... إنني ..

وانهارت في بكاء حاد مرة أخرى لتجتمع عليها زميلات الدرب ما بين مواسية ومعزية... لا أدري لماذا دمعت عيناي أنا أيضا؟ أكان تجاوبا مع دموع صباح ومشاطرة لأحزانها، أم حزنا آخر بدأ ينبثق من داخل أضلعي وقد دفنته الأحداث الأخيرة لكنها لم تمحه أبدا... خالد وقد ودعنا مثقلا بالأحزان ومترعا بالخيبة ومحملا بالهزيمة عاد إلى ابنه المريض خالي الوفاض إلا من حقد ومرارة وآلام لا توصف بعد أن ودعه والأمل يحلق به إلى أحلام ورؤى وأطياف رائعة من وهج المستقبل، لكن أباه قد خذله وأعاده بخفي حنين... الدموع عصية في عينيه والقلب تعصف به أحزان أقوى من القدرة على الاحتمال... أحزان الفشل والخيبة وضياع الحلم وفقدان الأمل... أحزان من يكتشف فجأة أن لأسوار العالية من حوله ليست سوى جدران هشة من زجاج تتحطم لأقل حركة فتصيب الشظايا نفوسنا بجروح لا دواء لها ولا شفاء... أحزان الخذلان المرير فيمن كنت تعلق عليه أكبر الآمال... أحزان العودة بأيد خاوية لطفل يموت وأم تنتظر على حافة الانهيار... أحزان الضعف والضآلة لقلة الحيلة وانعدام الرجاء...

لكن الأمل في الله كير، وقد بعثت إلية كل مدخراتي القليلة مع ما تملكة شقيقتي بدرية وما تبرع به صالح، مع اعتقادي بأنها غير كافية لكننا نطمح بالمشاركة بكل ما استطعنا لعل وعسى أن يقدر الله أمرا ويشفى هذا الصغير من أجل أبويه...

همست لي إحدى الزميلات:
- إن صباح منهارة تماما... المفروض أن تحصل على إجازة حتى تنسي أو تسلو أو حتى تعود لحالتها الطبيعية..
التفت لأجد صباح تهتف غير مبالية بصوتها العالي الذي يصل إلى السائق أ[ي راشد:
- شئ غريب... بالتأكيد هي عين وأصابتني... مات... مات فجأة... وأنا .. لن أتزوج أبدا أبدا... وثوب العرس.. وجهازي الذي ابتعته من أفخم الأسواق...

تعاونا على إنزالها من السيارة إلى المدرسة وأجلسناها في حجرة المعلمات مع إحدى الزميلات، ثم جلسنا مع المديرة نتباحث في شأنها ، فقررت المديرة تحويلها للوحدة الصحية لتتمكن م الحصول على إجازة رسمية ترتاح فيها وتعود كما كانت، صباح المرحة المازحة المتفائلة دائما...

بعد أن اطمأنت على صباح ذهبت لإعطاء الطالبات درسا، وما إن كتبت عنوان الدرس حتى صرخت إحدى الطالبات:
- أبله... اليوم هو اختبار مادة القواعد...

ابتسمت وأنا أمسح ما كتبت على السبورة لأبدلها بكلمة اختبار... وقع نظري على وضحى وأنا أكتب أسئلة الاختبار للطالبات، اندفع الدم إلى وجهي وارتجفت أطرافي، تذكرت ذلك القابع في أعماقي... بل إنني ما نسيته لحظة واحدة، كلماته الدافئة لا تزال ترن بأذني، عاطفته الصادقة أيقظت حنيني الغافي، حبه الصريح فجر ينابيع مشاعري فتدفقت كسيل جارف لا يحده شئ... رباه إنني أحبه... أحبه بكل ما في هذه الكلمة من معنى... أحبه بصورته الرقيقة بصوته الواثق الحنون... بكلماته المعبرة الشجية وحتى بخطه الدقيق الأنيق... أحبه كما لم أحب بشرا في حياتي... وأحببت لأجله قريته النائية ومدرستي العتيقة، وبيتهم الطيني القديم، و سكان القرية، أيضا طريقي اليومي إلى المدرسة... سبحان الله كم كنت أمقت هذا الطريق الوعر وأشعر بالخوف والوحشة حينما أصحو صباحا، ثم أشعر بضيق في الصدر وغثيان شديد حينما أنضم لزميلاتي في السيارة وأمضي بقية الطريق في قلق لا يسرقني منه النوم كزميلاتي حتى عودتي إلى بيتنا مرة أخرى... لقد تبدلت الأحوال في لمح البصر فأصبحت أصحو دون منبه بنشاط وحيوية وبهجة وأركب السيارة مع زميلاتي بفرحة زاعقة كفرحة الطفل بنزهة في مدينة الملاهي وأغيب في نشوة الطريق حتى نصل للقرية الحلم فيدق قلبي بجنون، وأرقب الطرقات البسيطة لعله يكون في أحدها سائرا... أتابع بعيني المارة لعله يكون بينهم... أحدق في وجه شقيقته أمامي بحثا عن ملامح حبيبة غائبة أو بالجوار... قالت وضحى باسمة:
- لقد انتهيت يا أبله من حل الاختبار...

أخذت منها لورقة لتنهال علي بقية الأوراق من باقي الطالبات . في نهاية اليوم وقبل أن تبدأ رحلة المغادرة اقتربت وضحى منني لتبلغني سلام والدتها وتعطيني وعاء صغيرا من السمن البلدي الذي تبرعت والدتها في صنعه...

في السيارة قلبت الوعاء في يدي لأفاجأ برسالة ملتصقة أسفل الوعاء... كانت أول رسالة حب أتلقاها في حياتي...






وللقصة بقية.
___________________________

الجزء الثانى عشر




أول مرة في حياتي أركب طائرة... أشعر بأنني أحلق بين السماء والأرض بلا ثوابت أو رواس، أتعمق داخل السحب وتبتعد عني الأرض شيئا فشيئا حتى تغيب عن ناظري، فلا أرى سوى سماء زرقاء من مختلف الجهات وقطع ضخمة من السحب، ترى ه لمعنى هذا أنني قريبة من الله... أيكون دعائي وأنا على الأرض... إذن فلأدع وأتوسل إلى ربي أن يشفيني عبد الرحمن ابن أخي خالد ويزيح هذه الغمة من صدره... سألني شقيقي صالح الراكب بجواري في الطائرة وكأنه يقرأ أفكاري:
- هل تعتقدين أن عبد الرحمن سيشفى؟
تنهدت بقوة وأنا ألملم أطراف عباءتي السوداء...
- أرجو ذلك... فلندع الله يا صالح أن يشفيه والله لا يخيب رجاء عبد إذا دعاء.
بسمل صالح وتمتم بمناجاة طويلة لم أسمعها ثم غرق كل منا في أفكاره....

تداعت ذكرياتي القريبة حينما هاتفني خالد قبل ليال. سألته بلهفة إذا قد استطاع تدبير السفر إلى الخارج لأجراء الجراحة لابنه عبد الرحمن... أجابني بصوت يخيم عليه اليأس والقنوط:
- أحلام أنا بحاجة إليك، بل في أمس الحاجة لوجودك إلى جوراي، فبعد الرحمن في حالة صحية حرجة جدا ولم أتمكن من تدبير المبلغ اللازم للسفر.. زوجتي أيضا مريضة وترقد الآن في المستشفي، فهي حامل بالشهر الثامن كما تعلمين، لكنها تعاني من نزيف حاد وهبوط في الضغط وحالتها حرجة أيضا فهي تعلم حال جيدا وتعلم أنه يموت...
صرخت هلعا:
- لا يا خالد... لا تقل هذا... إن عبد الرحمن سيعيش عمرا مديدا بفضل الله ورحمته فلا تتشاءم يا أخي رجاء...
أجابني بهدوء:
- إنك رقيقة يا أحلام، وتحاولين تجميل الحقائق، لكننا نعلم جيدا أنه لا أمل... أحلام هل تستطيعين أن تحضري إلى تبوك وتمكثي لفترة بسيطة حتى تتحسن الأحوال أو يأخذ الله أمانته..؟
امتلأ قلبي بالأحزان فلم أعرف بماذا أجيب... أردف خالد قائلا:
- أعرف أن أبي سيعارض مجيئك لكن هل ستحاولين...؟ لا أحد إلى جوارنا هنا، فزوجتي ليس لها شقيقات، وأمها متوفاة كأمي ولا صداقات قوية تتيح لنا أن نثقل على الآخرين...إنني وحدي في البيت مع الأطفال وإجازتي التي أخذتها من مدير المدرسة قاربت على الانتهاء وأنا مضطر أن أعود خلال أسبوع...
حاولت إخفاء نبرة الحزن من صوتي وأنا أقول:
- عموما الإجارة الصيفية على الأبواب... أسبوعان على الأكثر وتبدأ الإجازة... خالد أعدك بأنني سأحاول مع أبى ولن يرفض مساعدة إنسانية كهذه...
أحسست به يبتسم في سخرية على الطرف الآخر لكنني تابعت:
- لن أتأخر يا خالد في مساعدة بسيطة، سأحاول بكل جهودي...
قامت زوبعة في البيت ليس لها أول ولا آخر منذ أخبرت أبي بطلب أخي خالد... انتفخت أوداجه وبرزت رقبته نافرة جلية وهو يصرخ:
- أنت فتاة... ألا تعلمين ما معني فتاة... يعني أي شئ يخدشك ويقضي على سمعتك وسمعة أهلك...
- لكنني يا أبي سأذهب عند أخي وليس عند أحد غريب...
- ولو .. أي مكان تغادرين فيه بيت أهلك هو خطر عليك وأي خطر... لن تخرجي من هذا البيت إلا لبيت زوجك، وليتصرف خالد كما كان يتصرف دائما بدوننا... ألم يشعر بالحاجة إلينا سوى الآن... الآن فقط...
- إننا أهله يا أبي... لمن يلجأ إذا لم يلجأ الابن إلى أهله... فالظفر لا يخرج من اللحم...
- إنسي هذا الموضوع واغربي عن وجهي وإلا حرمتك من التدريس...

انكفأت أبكي بحرارة وأنا أتصور خالد يواجه الدنيا بمفرده، بلا أب ولا أم ولا أخوة وكأنه يتيم لا حول له ولا قوة... أتق الله يا أبي وقف إلى جوار ابنك ولو مرة واحدة في حياتك ليذكروها لك بعد الممات...

لقد رفضت مساعدته وهو في أحلك الأوقات وأتعس الظروف وقبضت يدك عنه وأدرت ظهرك له... لا تقض عليه يا أبي بهذه الضربة القاصمة بأن تمنع أخوته من مساعدته، فلن يضيرك في شئ أن سافرت له ووقفت إلى جواره في مأساته المزدوجة باسمك وتحت رعايتك... وتأكد أنني شريفة طاهرة سأحفظك في أي مكان أحل فيه فوق أي أرض وتحت أي سماء فلا تخذلني يا أبي..

عجزت عن النطق بحرف مما يدور في أعماقي ومضيت أنهنه في بكاء خافت يحمل عجزي وضعفي ويأسي... حتى تدخلت زوجة أبي... سمعتها تناقشه وتقنعه ثم تقترح أن يرافقني أخي صالح في غدوي ورواحي... علا صوته في البداية حتى ملأ فضاء الحجرة من حولي ثم تضاءل شيئا فشيئا حتى خفت، فترقبت قدومه ليعلن لي موافقته المشروطة... إنها ليست المرة الأولى التي تتدخل فيها زوجة أبي لصالحي، فقد تدخلت مرات كثيرة أذكر منها حين رفض أبي تعييني في مدرسة بعيدة عن مدينتنا، فأقنعته حتى وافق... وقتها أيقنت بأن الأب لا يحب أولاده إلا إذا كان يحب والدتهم، وربما بل بالتأكيد أبي يحب زوجته...

جاءني بعد لحظات قائلا:
- استعدي للسفر قريبا... لكن مع أخيك صالح ولمدة قصيرة فقط... أفهمت؟

مرت أيام قبل أن يستأذن صالح من عمله وأستأذن من مديرتي في إجازة اضطرارية قصيرة ثم نحلق في الطائرة...

سمعت صوت الميكرفون يعلن وصول الرحلة إلى تبوك... نزلنا مع أفواج المسافرين وأنا أقبض يد شقيقي بقوة شديدة وكأنه سيهرب مني...
لفحتني الأجواء الحارة بمجرد خروجي من جو الطائرة المكيف... إن الأجواء متشابهة في بلادي، لكن إحساس المرء قوي بما هو غريب عنه أكثر من القريب...

رأينا خالد في المطار... غصة ألم في حلقي شعرتها حينما اقترب منا، لقد نحل عوده وشحب وجهه وذبلت عيناه، بيد أن الألم الأكبر أحسست به حينما رأيت طفله عبد الرحمن في المستشفي... لم أشعر إلا بدموعي تجري حارة على خدي، لقد هالني مرآه لدرجة كبيرة... فقد كان كومة عظام ملقاة على سرير، لم يبق فيه سوى عينين سوداوين كبيرتين... خالد كان على حق... إن عبد الرحمن يموت لكن ببشاعة وبطء...

استقبلتني زوجة أخي خالد بنواح أفزعني رغم أنني توقعته... هي الأخرى ترقد على سرير المرض هزيلة ناحلة إلا من حزن كبير تشي به عيناها... رباه ألهذا الحد تنهار الأسرة وتتحطم... رباه إنني ابتهل إليك أن تشفي عبد الرحمن لتعود أسرة أخي كما كانت وتعود الابتسامة إليهم من جديد... لكن أحقا كنت أمل؟ أكان لدي رجاء بأن تحدث معجزة في هذا الحطام البشري؟ لكنه يحيي العظام وهي رميم وهو قادر على كل شئ سبحانه... الوحيد الذي كان لاهيا مبتسما غير عابئ بشي هو ريان.... إنه لا يدري بالمأساة المروعة التي تحيط بالأسرة... لا يدري شيئا عن نعيق البوم وعن طيور الموت القادمة لتخطف شقيقة. أحسست بألم شديد يعصف بكياني... لماذا بخلت عليه يا أبي بحفنة من النقود لينقذ حياة ابنه أو حتى ليلقيها في البحر أو ليحرقها إن شاء، فمهما يكن من أمر تكون قد فعلت ما يجب على أي أب أن يفعله وضميره مرتاح... لكن ما فعلته يا أبي يخالف كل الشرائع والقوانين وسنن الحياة وضمائر البشر... لقد قتلت ابنك مرتين... مرة برفضك مساعدته والمرة الأخرى بتنكرك لإحساس الأبوة داخلك وكأنه ليس ابنك ولست أباه...

حادثت شقيقتي بدرية عبر الهاتف وأنا أبكي... وما لا تعبر عنه الكلمات ولا تفي به العبارات أحسست به بدرية بأعماقها تدعمه قوة الترابط بيننا. همست لي بأن أتماسك ولا أنهار أمام خالد حتى لا يفقد هو الآخر رباطة جأشه، أوصتني أن أدعمه بالأمل رغم غيابه وأبدد طائر الموت بالوهم والرجاء وأن أعين زوجته المحطمة على تقبل أعباء الحياة... ويحك يا بدرية إن ما تطلبينه منى هو المستحيل بعينه، كيف أبدو رزينة هادئة أمام براءة يغتالها وحش كاسر، أبوه يتمزق لوعة وأمه تتلوى حسرة وألما... كيف أري الحياة وهي تسلب منه رويدا رويدا ولا أصرخ... أبكي... وانتحب بجنون... أعذريني يا أختاه فالموقف أكبر مني والوضع لا طاقة لي بالتجمل أمامه... لقد نسيت نفسي وقريتي وحبي الوليد... ضاعت قيمة الأشياء وازدادت تفاهتها أمام رهبة الموت القادم...

تحاملت على نفسي ومضيت أرفع من معنويات أخي وزوجته... فوجدت بي زوجته متنفسا لحزنها المكبوت، وعذابها الصارخ ودموعها الحبيسة، فبدأت شيئا فشيئا تتخفف من همومها وتتماثل للشفاء حتى استطاعت العودة إلى البيت على قدميها والصغير لم نملك إزاءه إلا الدموع وآيات من القرآن الكريم أتلوها عليه بصمت شفيف وعينين دامعتين...

حينما تخف وطأة المرض قليلا ينظر لي بعينيه الواسعتين ثم يبتسم بوداعة قائلا بصوت خافت:
- أريد أن ألعب بالكرة...
شئ ما يجثم على صدري.... خالد يختنق بالدمع فلا يجيب فأقول له ببشاشة:
- ستلعب بالكرة إن شاء الله قريبا....
- وريان...؟
- ريان سيلعب معك لكنك ستفوز عليه...
- لكنني متعب ورأسي يؤلمني...
- ستشفى إن شاء الله ولن يعود رأسك يؤلمك...
ثم أدير رأسي إلى الحائط وأبكي... أبكي بصمت وحسرة تجاوبني عيون أخوي خالد وصالح... يهتف خالد بمرارة وهو يضرب الحائط بقبضة يده:
- أشعر بالعجز الشديد... لماذا لم يساعدني أبي وهو يملك الأموال الطائلة... ما نفع أمواله إذا لم تسعد أولاده في حياتهم... تبا لها من أموال...
أتبادل وصالح نظرات صامته حائرة... يتابع بأسي:
- كان هناك أمل كبير بالشفاء بعد العملية الجراحية أخبرني الأطباء أن نسبة الشفاء عالية تصل إلى 90% لكن ماذا أفعل؟ لقد فعلت كل ما في وسعي ولم أستطع استكمال بقية المبلغ... إلهي إنني عاجز... عاجز...
وجلس على أرضية المستشفي الباردة يبكي بمرارة.

حادثنا أبي بضرورة العودة إلى الرياض، قال بأن الحاجة انتفت لوجودي، فقد خرجت زوجة خالد من المستشفي ولم يعد هناك مبرر لبقائي...

ودعتهم وأنا أتجلد وأقاوم كيلا أسفح الدموع كلأنهار... ثم مررنا بالصغيرة في المستشفي... كان يعيش نوبة قاسية من ارتفاع الحرارة الشديد وجسده يتفصد من العرق...

قبلته على جبينه قبلة انحدرت على أثرها الدموع لتبلل وجهه الحبيب وعينيه وفمه الصغير... انتزعني صالح من بين أحضان الطفل وهمس لي بأن أتجلد من أجل خالد الذي ينتظرنا بالخارج...
ودعنا خالد وقد بدا مذهولا ضائعا...

وفي الطائرة بكيت كثيرا لدرجة أنني لم أر الناس من حولي ولا المضيفات ولا أدري أين أجلس وبجوار من؟!

بعد وصولنا البيت بفترة قصيرة، رن جرس الهاتف... لا أدري لماذا شعرت بانقباض النفس... تناولت سماعة الهاتف وأنا أقاوم غثياني.... جاءني صوته.... خالد.... وكأنه قادم من عالم آخر... تماسكت بصعوبة كيلا أتهاوى سألته ونذير الشؤم يقترب أمام عيني....
- كيف حال عبد الرحمن؟
بصوت معدني بارد أجاب:
- لقد أنجبت طفلا...
قبل أن أبارك له، أردف قائلا بنبرات الصوت البارد القاتل:
- وأسميناه عبد الرحمن...
شهقت برعب وأنا أهتف...
- هل تعني ... تعني... أن...؟
- لقد مات عبد الرحمن منذ نصف ساعة فقط...
صرخت بلوعة وأنا أسقط في عالم من فراغ...

__________________________________________________ __________

>>>> الرد الرابع :

الجزء الثالث عشر





إلى أحلام
عيناك عيناك... ماذا أقول؟ فجر يضئ سمائي وبدء أفول...
عشقتك دهرا... أريد الحلول... حصوني دكت ليلي نهار وجبالي سهول...
أحلام...
أعذريني فلن تلجمي لسان محب فصيح عن التعبير... اعذريني إن أحرجتك أو جرحتك أو آلمتك بأية كلمة أو حركة أو عبارة... لكن المشاعر تمور في صدري، فلا أجد لها متنفسا سواك... أتدرين أنني أقف صباحا أراقبك حين قدومك إلى المدرسة وما إن أطمئن عليك حتى أعود راضيا إلى مدرستي... أتحسبين أنني لا أعرفك وأميزك من بين ألف فتاة أخرى... أنت مخطئة، فقلبي يدلني عليك أينما كنت وحيثما حللت...
أحلام... أشعر بأن حبي لك نادر الوجود، ليس مثل أي حب في هذا العالم...
إنه حب متفرد يسري مع الدماء ليأخذ بمجامع قلبي وعقلي وكياني... وهذا الحب نهايته الطبيعة هي الزواج فهل توافقين؟ هل تحلمين بي كما أحلم بك ليل نهار؟ هل تحبينني كحبي الأهوج لك؟ هل أنا فتى أحلامك مثلما أنت فتاة أحلامي... أنتظر ردك لأحضر على جناح السرعة خاطبا وأخطفك على الحصان الأبيض...
متى ستعرف كم أهواك يا أملا أبيع من أجلك الدنيا وما فيها لو تطلب في عينيك أسكبه أو تطلب الشمس في كفيك أرميها

أسير هواك
سعد
الرياض 9 مساء ت: 4776234 كل أربعاء

إلى أحلام ...
لا أدري لماذا أسطر لك هذه الكلمات... أهي رغبة في البوح أم هو احتياج للمشاركة، أم هي أخوة وصداقة لا أكثر... وأيا كان السبب فإنني أتألم... أتألم بكل ما في هذه الكلمة من معنى... في صحوي ومنامي، غدوي ورواحي، تطاردني عينان سوداوان لجسد ناحل أصفر... يغلبني إحساس المهانة والضعف بأنه كان في مقدوري عمل شئ ما لإنقاذ ولم أفعله... كان بإمكاني أن أبيع كليتي، أعضائي كلها واحدا واحدا.... نفسي حتى... لأنقذه من المصير المحتوم... كان يجب أن أفعل شيئا، أسرق أقتل ولا أتخلى عنه بهوان كما تخلى عني والدي... ما الفرق يا أحلام بيني وبين أبي... أحدنا باع ابنه من أجل حفنة نقود، والآخر باع ابنه لأنه ضعيف... كلانا أنذال جبناء... كلانا لا يستحق سوى الازدراء والمقت... لكن ماذا أفعل أكثر من ذلك... لقد ازدريت نفسي ومقتها وقتلتها حزنا وندما... ماذا أكثر؟
أتعرفين أنني أتحاشي النظر إلى عبد الرحمن الجديد... عبد الرحمن الصغير أشعر بأنه قد سلب أخاه روحه كما سلبه اسمه وسيسلبه حب أمه وأبيه وعطف شقيقه ريان، ومن ثم الاهتمام والرعاية ثم نسيان الراحل شيئا فشيئا حتى يهال على ذكراه التراب كما أهلناه على جسده ذات يوم...
أحلام ... سامحيني، إنها تداعيات أب ملكوم ونفثة من غليان تكاد تفجر صدري.

أخوك
خالد... أبو عبد الرحمن


خطابان قرأتهما في اليوم ذاته، الأول أقرأه للمرة الثالثة على التوالى، وتنتابني الأحاسيس نفسها و المشاعر الفياضة ذاتها.... إحساس غريب بأنني أحلق فوق السحب خفيفة منتشية أشعر بأنني مختلفة عن بقية البشر متفردة بذاتي، لي كينونتي الخاصة وأحلامي التي ليست كأحلام... إنني أحبه بالفعل وهو أول حب يتفتح عليه قلبي ويزهر، أحببت كل شئ فيه، شخصيته العبقرية التي تشفها كتبه بنبوغه، تميزه، وسامته وصوته أهفو إليها بك لكياني... صورة بيت الزوجية المقبل المملوء حبا ودفئا وحيوية وزوجا يأسرني بعاطفته وحنانه الدافئ وعينيه الآسرتين وأطفال كأزهار صغيرة يانعة...

تري هل يوافق أبي على زواجي من سعد؟ أم يحطم أحلامي كما فعل مع أشقائي من قبل... لكن سعد رجل لا يرفض أبدا... شاب متعلم مثقف طموح من عائلة مرموقة محترمة، فبأي مبرر يرفضه ويقضى على مستقبلي... كلا إنه لا يستطيع ولو حاول، فسعد لي وأنا له... ارتبطنا بخيوط لا مرئية تشابكت فيها أحلامي مع أحلامه، طموحي وطموحه، ورسمنا مستقبلا باسما نرغب في تحقيقه. لا يهم أن انتقل هو إلى مدينتي أو انتقلت إلى قريته البعيدة أو أقمنا خيمة في الصحراء هي عش الحب المأمول، ما يهمني أن نكون معا يدا بيد في أي مكان وزمان يجمعنا الحب والود ويدفعنا الطموح لتحقيق كل ما يمكن تحقيقه. سأهاتفه في موعده المرتقب ولن أخيب رجاءه لا لأبثه لواعج حبي بل لأطلب منه كفتاة محترمة تقدر وضعها جيدا وتحافظ على سمعتها أن يلج البيوت من أبوابها ولن يخيب رجاؤه أبدا بإذن الله...

بيد أن خطاب أخي خالد أحبطني ونشر في داخلي مشاعر الأسى والإحباط فتذكرت الصغير الراحل بعينيه السوداوين المتسائلتين وقبلتي الأخيرة التي اختطلت بالدموع على جبينه الملتهب... رجفة شديدة تسري في كياني وأنا أتصور ذلك الجسد الصغير تحت الثري.... هل كانت نقود أبي ستساعده وتمنع شبح الموت عنه... إنه مقدر ومكتوب ولا مفر منه لكن أبي بقسوة قلبه لم يدرك فائدة الأمل وبث الرجاء في نفوس من حوله وكسب أولاده إلى صفه بجزء تافه لا يذكر من النقود بالنسبة لثروة أبي الكبيرة... لكنه- سامحه الله- يتفنن في أبعاد أولاده وقتلهم واحدا بعد الآخر حتى صغاره من زوجته الثانية لم يشملهم بعطفه وحنانه سوي فيما ندر، وكأنه يخشي أن تضيع هيبته حينما يلاعبهم أو يضمهم إلى صدره... أخي خالد تجلد فأنت تعاني مرارة الخذلان أكثر منها مرارة الفقد... الإحساس البشع المريع بأنه لا حائط تتكئ عليه وأن ذلك الجبل الصامد في حقيقته ليس إلا بئرا جافة هاوية، فخا أكثر منها نقطة حماية... لست الوحيد يا خالد الذي عاني خذلان أبي له فواقع أخوتك يشهد على ذلك... لا تيأس يا أخي الحبيب، فعزاؤك أننا دائما معك بقلوبنا وأرواحنا وكل ما نملك، وأحمد الله أنه عوضك بسرعة عن عبد الرحمن بعبد الرحمن آخر، وما أراده الله هو الخير دائما، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم... قبل عبد الرحمن بالنيابة عني وابعث لي صورة له وهو يبتسم... لا تيأس أخي فالدنيا قادمة.

بعثت له الرسالة ليجاوبني بعد أيام قليلة بصورة للصغير الذي كان لدهشتي صورة طبق الأصل من أخيه الراحل بعينيه الواسعتين وشعره الأسود الحريري، وحتى ابتسامته الرائعة، وقد كتب خلف الصورة إلى عمتي الحلوة... شكرا. فرحت بتخفف أخي من أحزانه رغم المرارات العالقة بوجدانه وانتظرت الساعة التاسعة من يوم الأربعاء بفارغ الصبر لأسمع الصوت الذي لا يفارقني دفئه، وقد استعددت استعدادا حقيقيا، كأنني سألتقي معه وليس مع صوته فقط، فارتديت ثوبا أبيض ناصعا بلا أكمام وأطلقت شعري من أسره وقيوده، فتهادى على ظهري بفوضاوية محببة معلنا الفرح باستقبال حبيب العمر وزوج المستقبل. ما إن خرج أبي من البيت حتى اختطفت الهاتف وقلبي يدق في خوف... ثم أدخلته حجرتي وأغلقت الباب بالمفتاح...

انتظرت لحظات ليتوقف قلبي عن الخفقان ثم أدرت قرص الهاتف وشوقي يسبق الأرقام...
جاءني صوته مضخما باللهفة:
- أحلام... أخيرا... لقد انتظرتك دهرا...
أغمضت عيني وكأنني أختزن صوته الرائع في ذاكرتي قبل أن أجيب:
- لقد انتظرت أبي حتى يخرج... رغم أنني أعرف أن ما أفعله هو الخطأ بعينه لكنني لا أدري لماذا أفعله... إنني لم أحادث رجلا في حياتي، ولا أتصور تلك العلاقات القائمة بين الفتيات والشبان، فإنها في عرفي محرمة وممنوعة ومستحيلة أيضا...
- أحلام... أنت تعرفين جيدا بأنني لا ألهو ولا أعبث... إنني أحببتك لأتزوجك ... لا لأي غرض آخر... وقد أخبرت أمي بذلك ولا تتصوري مقدار سعادتها وفرحها، فقد أثنت عليك كثيرا وقالت إنني لن أجد أفضل منك جمال وأخلاقا وتدينا. حتى وضحى... إنها تحبك كثيرا يا أحلام... كلنا نحبك يا أحلام...
ضحكت على الرغم مني... وأنا أقول:
- نسيت أن أبارك لك نجاحها... ماذا تفعل وضحى بالعطلة الصيفية؟
خيل لي أنه ابتسم قبل أن يقول:
- لا شئ... تقرأ أحيانا... تجتمع مع بنات الجيران أحيانا أخرى... ونادرا جدا آخذها معي الرياض وأمي بالطبع، كما أنا الآن ربما لا تدرين أنني أحادثك من بيتنا في الرياض، فنحن نملك عمارة كبيرة تتكون من 12 شقة...
أعطاني أبي هذا السكن لأتزوج فيه فيما بعد، لأنني أنوي جادا الاستقرار في الرياض.
ثم أردف قائلا:
- متى تريدين أن أتقدم لوالدك يا أحلام؟
تلعثمت وتلجلجت قبل أن أهتف:
- كلا... ليس الآن.. وقت آخر...
صاح بحزن:
- أحلام ... أشعر بأنك غير راغبة في الزواج مني... تحاولين التأجيل أو المماطلة... لماذا؟ هل هناك آخر؟
شهقت بفزع:
- أبدا أبدا... مستحيل... لا يوجد سواك في حياتي.. لكن...
ومر طيف عبد الرحمن الصغير بخيالي كما رأيته آخر مرة بعينيه السوداوين ووجهه الشاحب المودع... فتابعت بأسي:
- إننا نمر حاليا بظروف سيئة... لقد توفي ابن أخي منذ أيام وهو في حالة يرثى لها...
- أنا آسف... لم أكن أعلم... عموما أحببت إبلاغك بأن هناك قصيدة ستنشر لي في جريدة الرياض... ربما بعد غد... أرجوك أقرأيها ، فهي موجهة إليك بالدرجة الأولى...
- حسنا أعدك بقراءتها.. وداعا فأبي على وشك الحضور...
- إذن سأنتظر كل أربعاء في الموعد نفسه... ألن تعطيني رقم هاتفك؟
- بلى في المرة القادمة... وداعا...

أعدت الهاتف إلى مكانه وحمدت الله أن أحدا لم يلحظ غيابي... ثم عدت إلى فراشي هائمة في عالم آخر لا يمت لعالمي بصلة... لقد أصبح هذا الرجل جزءا لا يتجزأ من حياتي، بل أضاف معنى بريقا لوجودي، فقبل أن أعرفه كانت حياتي عادية باهتة تكر كما حبات سبحة عتيقة... أو كالماء النقي بلا لون ولا رائحة ولا طعم... وبمجيئه تغيرت الأشياء وارتدت لون البهجة والفرح، تبدل الماء الصافي إلى ألوان وألوان وسلب شتى النكهات والروائح... غدوت أدرك معنى الحياة وسر السعادة والبهجة... إن الاهتمام بشخص ما معناه أن أدور في فلكه كقمر تحركه الأرض بجاذبية لا تقاوم وأستمد السعادة من وجوده وعطائه... سبحان الله... كانت حياتي السابقة كئيبة جافة بلا روح فأشرقت الأنوار بوجوده وبت أجد السعادة في أشياء صغيرة لم ألتفت إليها سابقا حتى ابتسامة طفل من أخوتي تمدني بعاطفة حسبتني لا أملكها... لماذا صددته حينما عرض التقدم لخطبتي... أهو حقا من أجل أخي أخي خالد أم خوفا من أن يصده أبي وتوارى أحلامي الثرى... أردت أن أعطي نفسي مجالا أكبر للأمل.. فسحة أكبر للرجاء... أحلاما أطول وأطول... ترى ماذا يكون موقفي لو رفضه أبي؟ هل سأقف في وجهه رافضة ساخطة معارضة أم سأنكس رأسي باستسلام مرير وأنسي كل شئ...؟ وهل أستطيع أن أنسي...؟ وهل مثل سعد ينسى....؟ إن أبي لن يرحم ضعفي ودموعي... لن يأبه لألمي وانكساري... لن يثنيه رجائي واسترحامي... إنه أبدا سادر في غيه ماض في حكمه دون النظر لأي اعتبارات أخرى حتى لو كان من يتكسر تحت قدميه هي قلوب أبنائه وليست أوراقا خريفية صفراء...

قلبي يؤلمني وأشعر بضغط شديد على صدري حتى أنني لا أقوى على التنفس حينما أتخيل أبي وهو يجهض حلمي الوحيد... أشعر أنني في حاجة لإنسان ما ... إنسان قريب حبيب أفضي إليه بما يقض مضجعي دون عقد ودون حياء.... فوجئت بنفسي أسرع لأجلب الهاتف... وفي لحظات أدرت رقم هاتف شقيقتي بدرية...
- أهلا يا أحلام... هل أنت متعبة؟
- لا ... لا شئ...
- هل يؤلمك موت عبد الرحمن؟
- كثيرا.... كثيرا جدا....
وأجهشت بالبكاء... سمعت صوتها على الطرف الآخر رقيقا مواسيا لا يحتمل آلاما أكثر... يكفيها ما تعانيه...
- شكرا يا بدرية... لقد ارتحت الآن...
- هل هناك شئ آخر يزعجك؟
- إنه مغص لا يلبث أن يزول....
أغلقت سماعة الهاتف ودموعي عالقة بالسماعة....




وللقصة بقية:
_________________________________

الجزء الرابع عشر




مرض أبي... نعم سقط الجبل الشامخ الصامد في نوبة حمى طويلة.... أحالته سهلا منخفضا منبسطا بلا ارتفاعات أو التواءات... سقط بلا حول ولا قوة كرضيع ما زال يتلمس خطواته الأولى عبر الآخرين...

ما زلت أذكر ذلك اليوم الذي دخل فيه أبي البيت مرتبكا مهزوزا على غير العادة، سألته زوجته إذا كان يريد الغداء فورا لكنه أبلغها بأنه متعب ورف كل شئ ودخل لينام، لتصرخ أم بدر بعد ساعات: أسرعي.. أسرعي يا أحلام إن أباك لا يفيق ولا يتحرك ولا يتكلم...

تجمدت في مكاني لحظات لأستوعب المفاجأة، ثم أسرعت ركضا لجهاز الهاتف أطلب شقيقي صالح ليحضر طبيبا على وجه السرعة...

عايشنا قلقا رهيبا واحتمالات مخيفة وتوجسات وأوهاما حتى طلب الطبيب نقله فورا إلى المستشفى وطمأننا أنها حالة عارضة وستزول خلال أيام.

انتقلنا جميعا إلى المستشفي ليرقد أبي على السرير الأبيض لمدة يومين عاد بعدها إلى البيت ناجيا من ذبحة صدرية كادت تخسره حياته، فقد اكتشف الأطباء أنه يعاني من ضيق في الشرايين التاجية يلزمه علاج دوائي طويل الأمد وراحة نفسية وجسدية...

وقفت بمحاذاة فراش أبي أغالب دموعي... فقد كان ضعيفا... في منتهى الضعف والخوار... لم أره إلا قاسيا مستبدا يبطش بلا رحمة ويقبض عطفه حتى عن أقرب المقربين إليه... يغتال الدمعة ويجهض الفرحة.. أبي ليس أبي...

فقد تحول إلى إنسان آخر لا يمت لأبي بصلة... أبي الجديد إنسان كسير مهزوم لا يملك سوى دموع شفافة تترقرق بها عيناه كل حين... أثارتني المفارقة واستدرت عطفي ودموعي، فوقفت إزاءه مواسية... قال بصوت خافت متهافت:
- أحلام.. هل تهاتفين سعاد؟؟

فغرت فاهي دهشة... سعاد... يا إلهي ما الذي جعلها تخطر في باله بعد كل هذه السنوات الطويلة؟ سعاد المتهورة المندفعة التي تتحدث بلا تفكير وتعمل بلا عقل يحركها الجنون والطيش، سعاد الجميلة الجريئة ذات الابتسامة المميزة واشعر الأسود الغجري، سعاد التي أخرجتها يا أبي من مدرستها، ودفعت بها في زواج غير متكافئ من أجل خلافات تافهة مع زوجتك على كل شئ، أتذكر سعاد يا أبي بشقاوتها وعنادها وحركتها السريعة التي لا تهدأ، وكأنها تريد إنجاز كل شئ في وقت واحد، فيضيع الوقت ولا تنجز شيئا أبدا، سعاد يا أبي فتاتك المميزة بكل شئ فيها، حتى جنونها المستعر وحرائقها الدائمة... لقد بكت طويلا يا أبي ليلة أحضرت فيها زوجتك الجديدة إلى بيتنا.. بكت حتى تقرح جفناها من كثرة البكاء، ثم قالت كلمتها التي لم تحد عنها أبدا" لن أدع هذه المرأة تأخذ مكان امي في البيت بسهولة... لن أدعها ترتاح... إما هي في البيت وإما أنا". بالتأكيد كانت هي، وليست سعاد... هي بريئة يا أبي رغم شراستها، طيبة رغم جنونها، لم تكن تدري لسذاجتها أنك قد دفنتنا وقتما واريت أمي التراب، فمتنا معها في نظرك لتبدأ حياة جديدة وأولادا جددا... لم تكن تدري أنك لم تحب سوى نفسك، وأنك لا تتورع أن تبيع أبناءك من أجل راحتك وطمأنينة بالك...

لم تكن تدري أن خلافها الدائم مع زوجتك سيؤدي بها إلى هذا المصير... وأي مصير؟؟ إنه قتل بطئ متعمد مع سبق الإصرار والترصد... لقد حرمتها من الدراسة التي عشقتها ووهبت فيها وأحبت مجتمعها من صميم قلبها، ولم تكد تصحو من هذه اللطمة الموجعة حتى فاجأتها باللطمة التالية الأشد قسوة ومرارة لتموت سعاد واقفة!! ما زلت أذكر ذلك اليوم البعيد حينما قلت لها بصيغة الأمر: غدا زواجك فاستعدي...

كانت الصدمة قاتلة فلم تحر جوابا... المتكلمة كانت شقيقتي الراحلة ندى حينما سألت بذهول:
- ومن هو يا أبي؟!
قلت بلا اهتمام وأنت تدير ظهرك لنا:
- إنه رجل عاقل توفيت زوجته ويعيل أولادا...
هتفت ندى بلا وعي...
- مثلك يا أبي...
فوجئنا بالصفعة المدوية التي هوت على صدغ ندى لتهتز لها دران البيت وتتحطم نفس ندى إلى الأبد ... عاد صوتك حادا متحديا من جديد:
- وماذا يعيبني.. ماذا في الأمر إذا كان مثلي... ألست بقادر عليكن؟ ألا أملك المال والجاه...؟
بكت ندى وتقوقعت سعاد وصرخت أعماقي... لا يا أبي الحياة ليست مالا وجاها إنها أشياء أخرى... أشياء لا تشترى بالمال ولا تعوضها الجاه وإن كثر...

تركتها تتزوج يا أبي... خطفت شمعة الدار المتوهجة لتزفها إلى رجل في سنك لا يملك سوى المال وعقلية متحجرة وحفنه من الأولاد.... أي مستقبل باسم يعدها به هذا الرجل وأي قبر دفنتها فيه حية...؟ اقترن الشباب بالفناء، الربيع ببرودة الخريف، وفعلا كما توقعنا أحاطها بأسوار وأغلال من الغيرة والشك والعذاب وخطفها إلى منفاه البعيد بلا أية صلات وكأنها زهرة ربيعية اقتلعت من جذورها إلى صحراء بلا ماء ولا غذاء... لقد اغتلتها يا أبي...
- أحلام ... أين سعاد؟؟
أعادني السؤال من غفوتي مع طيف سعاد التي تملك ما يفتقده الكثيرون من الجمال والشباب والصحة... أشفقت عليه فلم أجب... وبماذا أجيبك يا أبي؟ لقد بدأت في أبعادها عن محيطها فأكمل زوجها ما بدأته بكل همة ونشاط. إنني لا أعرف عنها يا أبي سوى أنها أنجبت ثلاث فتيات وولدا واحدا من زواجها ولا أدري عنها شيئا آخر...
جاءني صوت أبي فيه رجاء وإلحاح:
- أحلام... ابحثي عن سعاد بأية طريقة... يجب أن أراها قبل...

لا .. لا يا أبي لا تقلها. أنت لن تموت، لن تموت قبل أن ترى بعينيك ما فعلته بزهرات فؤادك، لن تموت قبل أن تتجرع كؤوس الندم والألم على أنانيتك وظلمك... إني لا أحقد عليك يا أبي ولا أتمنى لك الموت، بل إنني مشفقة عليك لكن رغبة قوية جامحة تجعلني أهفو إلى رؤيتك وأنت تحصد ما بذرت...

أن أرى دموع الندم تنسكب من عينيك ونشيد الغفران والتسامح ينطق به لسانك ولمسات التعاطف تشي بها يداك... فما حال أولادك أبتي وماذا جنيت عليهم؟

بدرية مع أطفال يتامي... وقضبان لا ترى، بدون بارقة أمل في مستقبل زاهر.. وصالح وحياة باهتة بلا طعم ولا لون يعيش فيها مجبرا خاضعا كرجل يعيش على الهامش... وندى التى لم تعرف السعادة طوال حياتها وماتت غلية على يديك... ويعاد التي دفنتها مع رجل طاعن في السن دون وازع من ضمير، فعاشت محنطة في بيت لا تريده، كسلعة لا ترد ولا تستبدل... خالد الذي فر من بين أصابعك ليشكل مستقبله بنفسه تركت طفله يموت أمام عينيه وأعيننا دون أن تمد له يد المساعدة، رغم أنه لم يطلبها منك يوما، لكنك كنت قاسيا متحجر القلب حينما أدرت ظهرك ليده الممدودة وقتلته ألف مرة قبل أن يموت ابنه الذي يحمل اسمك ويرجوك بعينين بريئتين أن تنقذه من حتفه... وحمد الذي غادرنا شابا يافعا هاربا من غربة تسكن خلايا جلده لائذا بأخيه من قسوة متعمدة للهروب القسري ولا ندري بعدها عنه شيئا سوى بعض الأخبار المتطايرة يتناقلها الرواة... ألم تلحظ أبي مواسم هجرة أولادك، اختيارا أو قسرا، هربا من القسوة أم تعطشا للحنان... لقد قتلتنا يا أبي وحان دورك لتتلقى الحصاد...

أسرعت إلى أخي صالح ليحاول البحث عن سعاد وإبلاغها بالحضور على وجه السرعة... و دونما استشارة أبي اتصلت بحمد وخالد للحضور...

اكتمل عقد الفل، واجتمع شمل العائلة الممزقة حول فراش الرجل الذي مزقهم وشتتهم ولم يسعدهم يوما... بدرية بوجهها الشاحب الذابل الذي أخذ يذوي شيئا فشيئا مع ذوبان شموع الأمل وانطفائها التدريجي... وحدتها القسرية أكسبت عينيها حدة لا تتناسب مع رقة ملامحها وقوامها فبدت أشبه بشبح أسطوري لا يرى منه سوى عينيه... سعاد الشقية... سعاد الجميلة... سعاد الجريئة وقد سحقتها أيام البؤس والتعاسة في ظل شبه رجل أذلها حتى النخاع، فتحولت الجرأة إلى جبن والشقاوة إلى جمود والمرح إلى عبوس، وتمزقت روحها الحلوة الشفافة تحت أقدام جاهلة بغيضة لا ترى من الحياة غير رنين الذهب... تعاودني شهقتنا المشتركة ونحن نحتضن بعضنا بعد غياب طويل قائلة لي:
- لقد أصبحت فتاة رائعة...
تحولت شهقتي إلى غصة بكاء وألم وأنا أحتضن جسدها النحيل المتهاوي... كبت دموعي الغزيرة لتنساب داخلي دون حساب ولم أصارحها بما يدور في خلدي من أنها قد أصبحت عجوزا في الثلاثينات من عمرها حتى يخال إلى من يراخا بأنها تكبر شقيقتي بدرية بعشرة أعوام على الأقل.

صالح وعينان كسيرتان... بيأس متغلغل في الوجدان ضارب في جذور الذات لا يرى من الحياة سوى أن يأكل ويرى وينام ويربي أولاده بلا أحلام أو أمنيات أو فرح آت....

وخالد الذي جاء مرغما من أجلي بدموع حائرة في عينيه وحزن عميق مرتسم على وجهه البائس، همس لي بضحك كالبكاء:
- لقد كبر عبد الرحمن الصغير وبدا شبيها بأخيه الراحل بدرجة غير معقولة...
بعد أن أنهى كلماته البسيطة أدركت بأنه لم ولن ينسى وأن الجرح يملأ فؤاده ويفيض به...

لم يأت حمد وربما لن يأتي، فأبي لم يهتم به في حياته حتى يهتم هو به عند اقتراب النهاية...

ولكنها ليست النهاية كما اعتقد أبي واعتقدنا... فبعد يومين من اجتماعنا معا، نهض أبي من فراشه صباحا وهو أكبر نشاطا وحيوية، ثم بدأت جحافل المرض تنهزم أمام قوة الإرادة ورغبة الحياة، فبدأ بتحسن شيئا فشيئا، فأمر الطبيب بتخفيض كمية الأدوية التي يتناولها يوميا والاكتفاء بدواء واحد يتناوله مدى الحياة، وبهذا خلع أبي رداء الضعف والمسكنة والحنان المزيف ليظهر على حقيقته ماردا جبارا لا يحنو ولا يلين... انسحب الأخوة تباعا هربا من المخالب التي بدأت تظهر مع عودة الصحة تدريجيا إليه... لم يتفوه بكلمة عزاء لخالد بل قال له بسخرية أصابتني في مقتل:
- هل تتفاءل باسم عبد الرحمن لدرجة أن تطلقه على طفلك الجديد وقد مات لك طفل بهذا الاسم من قبل... لا تسم أولادك باسمي.
غلالة رقيقة من الدمع غشت عيني خالد وهو يقول:
- انتهي الأمر يا أبي... والله كريم... لن يخيب رجاؤنا إن شاء الله...

ثم غادرنا غير آسف ليترك في قلبي غصة وألم ونهرا من الأحزان... ليأتي دور سعاد في الرحيل، تشبثت بها راجية أن تطيل المكوث لدينا فترة أخرى لأفاجأ بها تنخرط في بكاء مرير اهتز معه جسدها النحيل الصغير...
وقفت أتأملها برهة قبل أن أشاركها البكاء بكل تعاسة الدنيا التي اختزنتها داخلي سألتها ودموعي عالقة بأهدابي:
- ألست سعيدة في حياتك؟
أجابتني بعاصفة من الدموع... لأعيد لها السؤال بشكل آخر:
- مملكة أنت ملكتها الموتوجة وأطفال هم أولادك زهر قلبك. لا بد أن تكوني سعيدة حتى لو لم تتبادلي عاطفة صادقة مع زوجك...
بقيت الحجرة غارقة في صمت لا يقطعة سوى صوت شهقاتها الباكية، وكأنها لم تبك منذ أمد طويل... قلت لها مواسية:
- المهم أن تتفاءلي وتنظري للحياة بمنظار وردي حتى ولو كان زوجك طاعنا في السن، المهم أن تتعاونا على تربية الأطفال وتكونا سندا لبعضكما فى الحياة...
ردت أخيرا بزفرة حرى:
- إنه ليس معي يا أحلام... لقد رضيت به ولم يرض هو بي... تحملت من أجل أطفالي كل شئ، قسوته وبخله وجفاءه وتعذيبه لي، ورغم هذا أزاحني من حياته بقسوة ليتزوج بأخري ويهجرني...
قلت مندفعة:
- ألم تطلبي الطلاق يا سعاد؟
ردت بهدوء أنكرته فيها:
- ولمن أذهب بعد الطلاق... أبوك سيطردني بالطبع... وزوجي بعد الطلاق لن يبقيني في بيت دقيقه واحدة، فهو أبخل رجل في الوجود. إنه يستبقيني الآن لأنني أمثل له خادمة بدون أجر ومربية لأطفاله...
قاطعتها بحماس:
- كلا.. كلا يا سعاد إنها ليست حياة تلك التي تعيشينها، إنها موت بطئ يجب أن تثوري على أوضاعك وأن تتطلبي الطلاق، لتبدأي حياة جديدة مع رجل آخر يقدرك حق قدرك... سعاد...
همست ودموع جديدة تلوح في عينيها:
- أحلام .. أرجوك... دعيني أرحل بسلام...
عانقتها بحرارة وأنا أبكي...


وما زلة بقيه

الجزء الخامس عشر





بدأت الدراسة من جديد... ودعنا عاما دراسيا ليبدأ آخر... ألفيت نفسي أستقبل العام الجديد بلهفة غير مسبوقة وآمال تسبقني على الطريق ونفس تواقة للحب والحنان... ابتعدت عن سعد فترة طويلة، مكانية وزمانية، فلم أحاول محادثته على الإطلاق بعد آخر محادثة رغم يقيني التام بأنه ينتظرني بشوق كل يوم أربعاء، لكنني لم أستطع... بدءا بمرض والدي وحتى زيارة أخوتي لنا في البيت، وحتى فترة طويلة أخرى بعد مغادرة سعاد أحاول فيها مداواة الجروح التي خلفتها تلك الزيارة، وكياني الذي تبعثر جراء ظروفها القاسية... نعم كنت أخمن بأن " سعاد" ليست سعيدة، لكنني لم أتصور ذلك الرجل القميء الهزيل المجرد من العاطفة يغمد خنجرا لأنوثتها المتفجرة فيهجرها ليتزوج بأخرى.... عجبا... بدلا من أن يركع تحت قدميها منفذا كل أوامرها كفتاة صغيرة جميلة تتزوج رجلا في سن أبيها، ينعكس الوضع فيعافها هو، مبعثرا كرامتها في الأوحال ليطبق المثل القائل " رضينا بالهم والهم لا يرضى بنا" الأنكى والأمر أنها لا تستطيع التذمر ولا التمرد ولا حتى المناقشة، فهي بلا حائط تستند عليه كقطعة مشردة بلا سند ولا حماية وزوجها يعلم هذا تماما لذلك هو سادر في غيه ممعن في الهجران والإذلال مغلقا كل خطوط العودة وطرقها، لا أب ولا بيت ولا زوج... فليساعدك الله يا سعاد...

جلست صباح إلى جواري في السيارة صامتة لا تتحدث إلا لماما وتجيب على أسئلة الزميلات إجابات مقتضبة... يا الله كم تغيرت صباح، لم تعد تلك الفتاة المرحة الضحوك التي تلقي بضحكاتها ذات اليمين واليسار وتهزل أكثر مما تتحدث جادة، أغلب كلماتها كانت مزاحا، ونصف عباراتها ضحكا وابتسامات لا تأخذ من الدنيا غير وجهها الضاحك لتتبدى الخلفية البشعة والحقيقة المهولة بأن الحياة لا تسير على وتيرة واحدة وبأنها مزيج من المتناقضات التي يجب أن نتواءم معها لنحيا بسلام فهي الفرح والترح، السعادة والتعاسة، الأمل والألم وعجلة الحياة تدور وتدور وكل شئ إلى زوال... عندما كشرت الدنيا عن أنيابها انتزعت معها ابتسامة صباح ومرحها وحتى صباها، فبدت كامرأة في منتصف العمر ملت الحياة كما ملتها الحياة لتعيش على حافة الجرح... تهاويات وتداعيات بلا بصيص من نور...

سألتها بمرارة متحاشية جرحها وساعية لمعرفة حالتها النفسية:
- هل أنت مستعدة للعام الدراسي الجديد يا صباح؟
أجابت بهدوء أنكرته منها:
- لا أدري... لكنني متشائمة... ربما هذا أصبح طابعي أخيرا " التشاؤم" لكنني منقبضة النفس وأرغب في النقل من هذه القرية بأسرع وقت وبأية طريقة، حتى لو دفعت كل أموالي التي ادخرتها ثمنا لهذا...

همست لنفسي: وأنا على النقيض منك يا صباح، مستعدة أن أبذل كل ما في وسعي لأبقي في هذه القرية التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من حياتي وموطنا لأحلامي وصباحا يختلف عن كل الصباحات الأخرى في أي مكان في العالم... إنه دار الحبيب، منه أستمد بقائي، وفيه تزهر عواطفي الظليلة، تسقيها شمس حبي بالماء والهواء، دخلنا القرية وكياني كله يرتجف بعنف، قلبي يخفق بشدة، وشئ ما في نفسي يتوق للمجهول... يتوق لسعادة مجهولة ونبض حبيب وآمال بلا مدى، بعد أن تبادلنا القبلات والتحيات مع الزميلات، ذهبت إلى فصلى لتقع عيناي على وضحى دون غيرها كأول ما أرى....

حادثت تلميذاتي وسألتهن كيف قضين إجازتهن وأين، لكنني كنت مع وضحى فقط أبحث في ملامحها الهادئة عن وجه حبيب يؤرقني غيابه... عن كلمات دافئة تلون أيامي بلون الفرح، عن همسات تسكب الحياة رويدا رويدا في شراييني، عن حلم وأمل وبدايات...

إليك يا رجل يسكنني بجنون، إليك حب سأسكبها في عيني شقيقتك فأصلك أنا بدلا منها... رسالتي يا حبيب العمر أنني أنتظرك... فأدركيني يا عينيها وأوصلي عمق مشاعري وحرارتها... أفهميه كيف أن الهجرة الصحراوية المهجورة تحولت إلى جنة من بساتين في وجوده... أفهميه كيف أن الأجواء الحارة ولفحات الصيف التي لا تطاق أصبحت نسمات باردة عليلة وزخات من مطر خفيف يندي الوجوه دون أن يبللها... أفهميه يا عينيها أن الطرق الوعرة أصبحت سلالم أنيقة توصل بعرش الحب وأن مدرسة القرية الطينية المتهاوية تبدلت بمدرسة نموذجية رائعة، كأرقى الأكاديميات في العالم منذ مسها الحب بعصاه السحرية... عينيها إنني أحملك أمانة فلا تخيبي رجائي....

وكأن الأمانة قد وصلت، فما إن انتهي وقت الحصة حتى فوجئت بوضحى تلحق بي قائلة:
- ابله... أمي تسلم عليك وتهديك هذا البقل، فهو من صنع يديها...
ابتسمت لها بهدوء رغم اهتزاز يدي الواضح وأنا أستلم منها الوعاء المعدني... فقد وصلتني الرسالة...

لم أفاجأ وأنا في البيت حينما وجدت خطاب سعد أسفل الأقراص اللبنية المجففة. قرأتها وأنا أتذوق قطعة منها، يسري مذاقها معا إلى جوفي فأبتسم... أبتسم لسعد وهو يعاتبني على الغياب الطويل.... أبتسم له وهو يعلن لي حبة وشوقه ولهفته... أبتسم وهو يطلب أن يتقدم لخطبتي في أسرع وقت ممكن. أبتسم وهو يطلب أن يتقدم لخطبتي في أسرع وقت ممكن. أبتسم وهو يهديني قصيدة شعرية غزلية، هي آخر إنتاجه، كتبها لي كما قال لي وقد أضناه الشوق والهجر والحرمان، فجاءت رائعة معبرة... ابتسمت لطرفته الأخيرة في نهاية الرسالة هل تتزوجيني أم أخطفك؟....

ما إن طويت الرسالة لأخفيها عن الأعين حتى بكيت بشدة... بكيت لا أدري لماذا... ونمت وسط دموعي ترافقني رسالته في أحلامي وطعم لاذع حامض لأقراص البقل يذوب في فمي ببطء...

__________________________________________________ __________

>>>> الرد الخامس :
الجزء السادس عشر





لم أكن أتصور أنني سألتقي بسعد بهذه السرعة، وبطريقة لا ترقي إلى أي خيال. بل لم أتصور أن أراه أمامي رؤي العين ولا في أكثر أحلامي تفاؤلا لكنه القدر الذي يرسم لنا ما لا نتخيله ولا يخطر في قلوبنا... بعد خطاب سعد بيومين فقط، وبعد أو أوصلنا أبو راشد إلى المدرسة بساعة واحدة سقط فجأة مغشيا عليه ثم نقله بعض أهل القرية إلى أقرب مستشفى كما أخبرنا الحارس....

دارت مناقشات طويلة بين المعلمات، ثم أعلنت فوزية أنها ستهاتف زوجها ليأخذها، وسألتني إذا ما كنت أرغب في مرافقتها، لأن صباح غائبة، فرفضت بحسم، وأخبرتها بأنني سأحادث أبي بدوري، ثم تناولت عباءتي وارتديتها لأذهب مع زميلاتي إلى حجرة الحارس الخارجية، حيث يوجد بها هاتف لاسلكي. تعاونت المعلمات مع أهل القرية على شرائه ليكون حلقة وصل بين القرية وخارجها إبان الأزمات... أدرت أرقام النداء الآلي الخاص بأبي ثم انتظرت قليلا. أدرته مرات عدة بعد ذلك وأبلغت الحارس أن يخبر أبي بمرض أبي راشد حال اتصاله وأن يبلغه بضرورة حضوره للعودة بي... ثم عدت إلى المدرسة وانشغلت في حصصي ومشاكل المعلمات التي لا تنتهي وعيني وضحي اللاقطتين. مضى الوقت دون أن أشعر به، لأفاجأ بذهاب كل المعلمات عداي... سألت الحارس، نفى أن يكون أبي قد اتصل... أدرت الأرقام مرة أخري ثم اتصلت بزوجة أبي لتبلغني أن أبي غير موجود، ثم اقترحت علي أن أعود مع أية زميلة لي... ضاقت الدنيا بي ولم أدر ماذا أفعل، فزميلاتي قد رحلن، ولم يتبق غير المديرة التي عرضت استضافتي لديها، وقبل أن أبلغها بردي، سلبا كان أم إيجابا فوجئت بوضحى تقترب مني في خجل وهي تقول:
- نحن سنوصلك يا ابله... فسيارتنا أمام الباب وأنا سأذهب برفقتك...
فغرت فاهي لا أحير جوابا ... فهتفت المديرة:
- هيا يا أحلام لا تضيعي الوقت فأبوك لم يرد عليك... ثم إنهم ناس طيبون فجزاهم الله ألف خير... هيا يا أحلام... هيا...

ثم دفعتني بيدها خارجا وهي تغلق الباب الكبير، ثم تلوح لي بيدها مودعة وكأنها تتخلص من عبء كبير يثقل كاهلها... ومن يولمها، فهي أم وزوجة ووراءها متطلبات لا تنتهي... ثم هي غير مستعدة للانتظار ساعات طويلة حتى يحضر أبي من الرياض... مشيت بلا اختيار ودلفت إلى السيارة كالمسيرة وأنا لا أدري ما حولي...

مشاعر كثيرة تختلط في كياني... خليط من الخجل والغضب والخوف والترقب والمرارة... أفكاري تتري... ما موقف أبي حيال تصرفي هذا؟ إنه ليس لموقفي القديم، فالمسافات شاسعة وسأبرر لأبي موقفي بشتى الطرق. إنني لم أفعل جرما أستحق عليه العقاب... إنني فقط سمحت لتلميذتي... وشقيقها بتوصيلي... يا إلهي... شقيقها... أنه سعد... سعد بشحمه ولحمه وهو السائق، هو من سينقلني هذه المسافة الطويلة إلى بيتنا.... وهو وأنا وشقيقته... لا يفصل بيني وبينه إلا نصف متر أو أقل، رائحته المميزة تقحمني بعنف، تحاصرني من الجهات الأربع، تنتزع سلاحي وتصفعني بوجودها فلا أملك إلا الاستسلام. صوته يخترق أذني رائقا شفافا قريبا تحمله لي ذبذبات الهواء التي نتنفسها جميعا ليصل لي مباشرة دون وسائط، طازجا كأنه رغيف خرج لتوه من الفرن... يداه السمراوان بعروقها النافرة وبساطتهما العجيبة أراهما أمامي على المقود، أكاد ألمسهما بيدي وأري كيف تعبر الدماء وتتدفق إلى هذه اليد السمراء الخشنة... شعره الناعم اللامع الذي تتدلي بعض خصلاته من تحت غطاء الرأس سوداء حالكة متحدية وكأنها تتحدي أصابعي المتجمدة أن تعزف عليها أحلي النغمات...

رباه أن القرب مخيف وممتع... حلو ومغرق في المرارة... كيف يكون فتي أحلامي قاب قوسين أو أدني مني؟ كيف أري خيالي متجسدا أمامي على أرض الواقع مرتديا عباءة الحاضر يلتحف بالممكن والمستحيل... إنني لا أعي قربه، لا أعي غير هذه الجاذبية الشديدة والذبذبات اللأمرئية التي تشدني إلية، وكأن وضحي ليست موجودة، وكأنها تمثال من تماثيل الماضي السحيق، أو قابلة متمرسة تشهد ولادة حب نادر الوجود لا يولد إلا مرة كل مائة عام... ويحي إنه يحادثني فبماذا أرد عليه؟

- فرصة سعيدة أن نري أنا ووضحي منزلكم...
مضيت أرتجف بعنف، فماذا أقول وكيف أتكلم وكيف تخرج الكلمات ولساني ملتصق بسقف حلقي رافضا التحرك... الحب الهادر يلفح أجوائي بنيرانه الحارقة وخوفي من أبي يشلني حتى الصدمة، فأي حمق وأي جرأة وما هذا الذي أفعلة بنفسي؟ أخيرا خرج صوتي مرتجفا مبحوحا:
- لو علم أبي يا سعد بأن رجلا أوصلني إلى بيتنا سيقتلني حتما...
جاءني صوته حنونا مطمئنا:
- أحلام أنت لم ترتكبي خطأ... لقد علمت من وضحي أنك حاولت الاتصال به مرارا... فماذا تفعلين أكثر من هذا؟ هل مبيتك بالمدرسة أهون ضررا من أن توصلك إحدى زميلاتك إلى البيت؟
- لكنه... أقصد... حصل في وقت سابق أن أوصلتني إحدى زميلاتي مع شقيقها من الجامعة إلى البيت ... فكدت أموت على يديه...
لمجت ابتسامته الجانبية وهو يقول:
- لن تموتي إلا إذا قدر الله لك ذلك...

ثم انسابت الموسيقي الهادئة لتنزع الرعب والهلع من أعماقي وتلقيها بعيدا كزبد البحر.. . ثم تغلغل صوت المطرب العذب إلى كياني ليحلق بي بعيدا بعيدا في جزر لم تلمسها قدم أنسان من قبل وأنهار عذبة وبساط أخضر في كل مكان... أشعر أن الصوت يحتويني، يزلزلني... يخترقني حتى النخاع ( فحبيبة قلبك يا ولدي ساكنة في قصر مرصود... فمها مرسوم كالعنقود... ضحكتها أنغام وورود) أذوب في عوالم وردية لا نهائية ... الصمت هنا له لغة ... لغة تركع أمامها كل اللغات... لم أعد أحس بالطريق ووعورته... بالصحراء المترامية الأطراف التي اعتدت التطلع إليها يوميا عبر النافذة... اللوحات الزرقاء التي حفظتها عن ظهر قلب وأسماء القرى والهجر الغربية التي نمر عليها في رحلة الذهاب والإياب... وهلعا... العبارات التي تصافح أعيننا صباحا وظهرا كل يوم... الحمد لله... مع السلامة.. رافقتكم السلامة... وغيرها من العبارات التي غابت بعض حروفها، فغدت أقرب للملهاة منها لغرضها الأساسي... تلاشى كل هذا ولم أعد أرى سوى شخص واحد يقود أمامي تطالعني تعبيره العاشقة في مرآة السيارة، فتملأ نفسي فرحا وحبورا... انتهي الوقت بسرعة لا أدريها فلم أدر بنفسي إلا وأنا أصف له الطريق إلى بيتنا متعجبة من السرعة التي وصلنا بها وقد كنا مع أبي راشد نقطع الطريق بأوقات طويلة مملة لا تنتهي. ما إن وقفت السيارة أمام الباب، ووضعت يدي في يد وضحى لأسلم عليها مودعة حتى خرج أبي لا أدري من أين... كمارد خارج لتوه من قمقمه... نظر إلى السيارة ومن بداخلها نظرة صاعقة قاتلة ارتعدت لها فرائصي... تحادث مع سعد بكلمات بسيطة، فهمت منها أن سعد يشرح له كيف عرضت عليه شقيقته أن يوصلاني إلى البيت...

في البيت تلقيت صفعات دار لها رأسي فنسيت كل شئ....




وللقصة بقية:
__________________
الجزء السابع عشر





علمت أن زوجة أخي حمد حامل توأ- نقل شقيقي حمد من القريات إلى الرياض نقلا تأديبيا!!
جزعت لهذه العبارة ليتابع صالح هامسا:
- قد نقل إلي مستشفى الرياض المركزي وطلب مني أن ابحث له عن سكن بسعر مناسب...
خرج صوتي هزيلا لا يتناسب مع عظم الموقف:
- لكن يا صالح ماذا فعل حمد لينقل بهذه الطريقة التي تسئ إليه؟
قال بتردد :
- إنه لم يشرح لي كل شئ بتفاصيله ...لكنه قادم إن شاء الله خلال أيام ويمكنك حينها أن تسأليه ....

حمد أحد ضحاياك يا أبي وليس آخرها ... ماذا فعل ليستحق هذا المصير البشع المهين لأي إنسان ....نقل تأديبي ... ما معناه ... نقل بالرغم عنه ، نقل للتأديب والتهذيب ، نقل عقابا لشيء فعله .. شئ كبير ومنذر بالخطر يتكافأ وهذه النهاية السيئة ، ترى هل غش أو سرق أو قتل أم ماذا بال ضبط ؟ منذ غادرنا قبل سنوات وأنا أجهل مصيره ... كل ما عرفته أنه التحق بالمعهد الصحي في تبوك ثم تخرج ممرضا ، ليتعين في مستشفى القريات العام ، ثم تزوج من إحدى زميلاته الممرضات التي أحبها قبل الزواج وسكن إلى جوار أهلها ، ثم لا شئ سوى أنه بصحة جيدة ويحيا حياة زوجية طبيعية ... لكن هذا الموقف الأخير زعزع كل أفكاري السابقة وأدركت أنه ربما كان يعيش في محنة ...

منحة قادته إلى المصير المؤسف الذي يرهبه أي إنسان طبيعي... ألا تشعر بالخجل يا أبي ...بالأسف ؟ أي شعور ينتابك وولدك يعود إليك بعد سنوات مبعدا مهانا مطرودا وأصابع خفية تشير إليك بالاتهام بأنك السبب في كل شيء ، خروجه وعودته ، سفره الهارب وعودته الاضطرارية، ابتعاده بحلم وعودته القسرية بحلم مجهض ، تحطم آماله ومستقبله على صخرة قسوتك وظلمك ... أشعر بآلام شديدة تفري عظامي ، ليست هي آلام ضربك المبرح لي ، بل هي معاناة أخوتي سكنت جسدي وأبت أن تفارقه...

تردد صالح قبل أن يقوله وكأنه يقرأ أفكاري أو رأى دلائل الألم على وجهي :
- أما زلت تتألمين لضرب أبي ؟
كفكفت دمعة فرت من عيني ، ومضيت دون أن أجيبه على تساؤله ... فلم يكن يهمني ضرب أبي لي بقدر ما آلمتني الزوبعة والفضيحة التي أثارها دون أي داع، وما زلت أتذكر أصداء الصفعات وهي تتردد في جنبات البيت و هو يصرخ بأعلى صوته :
- الفاجرة ...سأقتلها ولن أرحمها....

تدخلت زوجة أبي دون جدوى، ولما شعرت بأنه سيقضي علي، اتصلت بشقيقي صالح على عجل ويتلقفني منه كجثة هامدة بدون أي روح... وأبي يهدر بكل قاموسه المعروف من الشتائم البذيئة، ثم حلف بأغلظ الأيمان أن يفصلني من عملي ويحسبني في البيت... أغمي علي، ولم أعد أشعر بشيء حتى صباح اليوم التالي...

أفقت بجسد مضعضع متهاو ونفس كسيرة وأنة وروح تمزقها الآهات، لم أستطع تحريك ذراعي أو قدمي، فانسابت دموعي غزيرة لاذعة لتثبت لي بأن الجسد مهما تمزق أو فني، فإن الروح باقية نشطة لا يحدها حد ولا تربطها قيود. وقتها تذكرت أحد حكماء الهند " راجيش" حينما قال: " إذا ربطوا يديك وقدميك بالسلاسل وكبلوك بالأغلال فلا تيأس... فباستطاعتك أن ترقص أليس كذلك، وأن تجعل من رنين أصوات السلاسل نغما ترقص عليه" وأنا لم أرقص لكنني بكيت، بكيت وجحافل اليأس تدب في أعماقي وطاردة كل أمل لي في حياة باسمة سعيدة، وصورة سعد تغيب شيئا فشيئا عن عالمي مخلفة بؤرا صديدية وحرمانا... وفي ضباب الآمي وأوهامي جاءتني زوجة أبي وشقيقتي بدرية يعلنان لي بأن أبي قد عفا عني وسمح لي بالعودة إلى عملي بشرط الالتزام بكل قوانينه بحرفيتها، ثم حاولت النهوض بكل ما أستطيعه من قوة لأجثو على قدمي أبي أبللهما بدموعي طالبة العفو والمغفرة... ليعفو عني بركلة من قدمه وهو يهتف:
- لو كررت هذا ثانية فلن يمحو عارك إلا القبر...

بكيت على صدر شقيقتي بدرية وصالح يثبت لي بأنه متفهم للأمر، وأنني لم أفعل شيئا يستحق أي عقاب، وأن مرافقة زميلتي وشقيقها ليس عيبا على الإطلاق... ابتلعت غصة ألم وأنا أحاور ذاتي " آه لو تدري يا صالح من هو شقيق زميلتي هذه كما تسميها... آه لو تدري، إنه حياتي التي أعيشها ودنياي التي أحياها".

لكن أحدا لم يعرف ما بداخلي سواي، ومضيت أجتر آلامي في صمت وأنا أترقب عودة شقيقي حمد المحبطة...

حضر حمد وزوجته ذات مساء... هالني الفارق الشديد بينهما، هو بوسامته اللافتة وطوله الفارع وبشرته الوضاءة، وهي بقامتها الضئيلة ودمامتها المنفرة وبشرتها المائلة للاصفرار...

كان هذا أول شئ لفت نظري فيهما، ثم اكتشف أنهما بدون أطفال وأدركت أن هذا الأمر يشكل لهما مشكلة حينما سألت حمد بعفوية:
- أليس لديكما أطفال؟
حينها فقط تجهم وجهه وغابت الإشراقة المميزة عن ملامحه لتعبر سحابة سوداء عينيه، فتمتلئ بالدموع المتجمدة اليائسة...
أجابت زوجته وهي ترتجف:
- بلي.. ليس بعد...

ندمت على سؤالي، وأيقنت حينها أنني قد وضعت ملحا على الجرح ينزف فزدته ألما واشتعالا... تقلصت عضلاتي ألما وحسرة، فنكست برأسي دون أن أنبس بحرف وكأن شقيقي قد استشعر ندمي وألمي، فهمس لي بأنه سيوصل زوجته إلى البيت ثم يعود ليسهر معي....

وكانت سهرة دامعة دامية أثارت لواعجي وبثت الحزن والألم في نفسي طويلا. فقد حكى لي قصة حبه وعذابه حيث التقي بزميلته الممرضة في المستشفي نفسه... التقاء روحي ليس أكثر، أعجب بنشاطها وذكائها وكفاءتها.. وبادلته إعجابا بإعجاب، فنما الحب وتطور ونضج، ولم يكن من نهاية ملائمة له سواي الزواج، فتقدم لأهلها خاطبا ورحبوا به أيما ترحيب، ولم يسألوه عن أهله وأبية ولم يشترطوا عليه أي شروط، بل كان كل شئ سهلا ميسرا بشكل يدعو للريبة والخوف من المستقبل، فلا سعادة نقية خالصة بدون شوائب ولا طريق ممهد بدون عراقيل وأسلاك شائكة، فبدأت رحلتهما المرهقة المكلفة بعد شهر واحد فق من زواجها بدون حمل... بدأت الرحلة في المستشفيات والمراكز الصحية المجاورة ثم تجاوزتها إلى المستشفيات الخاصة الباهظة الثمن... لم يكن الموضوع عدم ثقة بالمستشفي الكبير الذي يعملان به سويا لكنه الخوف من انتشار المر بين زملائهما، فيصبحان موضوعا للحديث ومادة للتندر والسخرية أو على أحسن الفروض تحوطهما نظرات الشفقة والرأفة بحالهما وهما لا يريدان شيئا من هذا... يريدان تعاطفا حقيقيا نابعا من قلب، صادقا مخلصا وبمرور السنوات بدأت مدخراتهما تنفد وديونهما تزداد والأمل يذوي شيئا فشيئا في نفوس متعطشة لطفل واحد فقط يملأ عليهما حياتهما ويسقي بذرة الحب التي بدأت تعاني من جفاف المشاعر وتصحر العواطف. طفل واحد يا أحلام ولا أريد غيره أبدا أبدا....

وأطلق تنهيدة انخلع لها قلبي وارتعدت لها أطرافي، فلم يسعني سوى أن أقول...
- إن الله كريم يا حمد ولن يخذلك أبدا...
نظر لي بدهشة وكأنه في يشك إيماني ثم هتف بمرارة:
- سبع سنوات من الزواج بدون أي ثمار... هل هناك أي أمل؟
قبل أن أتفوه بكلمة تابع بحزن:
- أتدرين... لقد اضطررنا للجوء إلى المستشفى نفسه الذي نعمل به وهو ما حاولنا تحاشيه مرارا... لكن حالتنا المادية المتدهورة وسفرنا المتكرر خارج البلاد أوصلنا إلى طريق مسدود، فلم نجد بدا مما ليس له منه بد فحادثت أفضل طبيب استشاري في المستشفى، وبدأنا نخضع لعلاج مكثف وأدوية باهظة الثمن صرفها لنا الطبيب من صيدلية المستشفى... لقد كان سبب مشتركا بيننا... فأنا أعاني من ضعف في الإخصاب، وهي دورتها الشهرية غير منتظمة والتبويض ليس طبيعيا، ومع هذه الأدوية وعلاج الطبيب المتمكن ارتفعت نسبة الإخصاب لدي وانتظمت الدورة الشهرية لزوجتي...

صمت حمد فجأة فرفعت وجهي إليه لأجده هائما يحدق في الفراغ وكأنه قد نسي وجودي كليا وغرق في عالمة الخاص... ذلك الماضي الذي يحمل بين طياته كما هائلا من الأحزان والمواجع تشي بها عيناه الدامعتان وحركات يديه العصبية. لم أشأ أن أقاطع صمته أو أستحثه على الكلام، فقد توحدت معه في دنيا مضخمة بالحسرات تخلو من صدر الأم الحنون وعطف الأب ومؤازرته وتشتت الأخوة ومعاناة مستمرة مع الحياة...

" خلق الإنسان في كبد" همست بها دون أن أشعر لأنتشل شقيقي من رحلته الداخلية إلى دنيا الواقع... تنهد قائلا:
- نعم ... نعم صدقت الآية الكريمة " خلق الإنسان في كبد" مكابدة مستمرة وصراع من أجل البقاء... لن تصدقي حينما أخبرك بأن زوجتي قد كتب لها الله الحمل على يد هذا الطبيب الشهير لكنه لم يتم، ولا أستطيع أن أصف لك مهما عبرت عن مشاعر الفرحة الزاعقة والسرور الطاغي، ما إن علمت بالخبر ثم التعاسة الخالصة والحزن القاتل اللذين أعقباهما... أتدرين ما معني أن يتعرض إنسان ما لمشاعر متناقضة بل شديدة التناقض في وقت وجيز تماما كما يحدث للجسد حينما يتعرض لحرارة ثم برودة والعكس... إنه يمرض ... ينهار... يفقد صوابه أو يتخبط، وهذا ما حدث لي يا أحلام... لم أتحمل رؤية أحلامي وهي تنهار أمام عيي دفعة واحدة. لم أتحمل الأمل وهو يتحول إلى وهم وسراب، وطفلي المنتظر يتمزق إلى أشلاء يحويها التراب... جننت... افتعلت مشاجرة مع الطبيب واتهمته فيها بتعمده إجهاض زوجتي... حاول أن يفهمني وأن يشرح لي، لكنني صددته... وتطور النقاش إلى أن اتهمه بسرقة الأدوية من صيدلية المستشفي وبيعها... هنا فقد الطبيب هدوءه وصبره فطردني من العيادة ليتطور الأمر بعد ذلك إلى تقديم شكوى ضدي، تلتها شكاوى من زملائي بأنني أهملت عملي في الفترة الأخيرة وأعاملهم بشيء من الحدة والعصبية، ثم شكوى من مديري المباشر بأنني لا أصلح للعمل، ثم تم عمل تحقيق، وأحمد الله على نتيجته فليس النقل التأديبي لمنطقة أخري كمثل الفصل من الوظيفة أو الوقف عن العمل أو أي عقاب آخر...

لا تحزني من أجلي يا أحلام، فصدقيني أنني لست حزينا فليس هناك في تلك المنطقة ما أحزن من أجله حتى ممن ارتبطت معهم بصداقات عميقة ، فقد بينت لي هذه الأزمة أن صداقتي لهم أوهي من خيوط العنكبوت، وأنه لا دائم سوى وجهه سبحانه وتعالى... والأمل في الله كبير...

خرج صوتي مبحوحا خشنا وأنا أقول:
- إنك لم تفعل شيئا منه يا حمد، فقد كانت مشكلتك مع الطبيب منطقية من وجهة نظرك، لكنها الظروف السيئة التي وضعتك في هذا الموقف... ومن يدري " وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم" فربما يكون انتقالك إلى هنا بداية عهد خير ونماء بالنسبة لعملك وحياتك ككل... المهم أن تستقبل حياتك الجديدة يأمل وبنظرة تفاؤل وحب، ولن تخسر بإذن الله...

انسحب حمد لأبقى بعده فترة طويلة عاجزة عن استرداد ذاتي وكأنني أقف على فوهة بئر عميقة أمد يدي بدون طائل جاهدة لانتزاع نفسي المفقودة في قاع البئر. رباه ماذا فعلت بالدنيا وماذا فعلت الدنيا بي؟ تضعني على حافة المآسي... مأساة وكأنني أفتقد التعاسة داخلي لتمتلئ كأسي المترعة بالمزيد حتى الفيضان وتصفعني بالحياة الصفعة تلو الصفعة حتى لم أعد أقوى على تحمل المزيد...

أخوتي ومعاناتهم التي أحملها، هموم تضاف إلى هموم، وعناء يثقل كاهلي، أتألم لألمهم وأعيش حياتهم مرتين، حتى أنني أكاد أنسى حياتي ومستقبلي وشبابي الذي تسرب من بين أصابعي كدفقات الماء....

صفعات أبي لا تزال موسومة على خدي تؤرخ نهاية حريتي وبداية معركتي الخاصة مع العالم وأولهم أبي... لكن الصفعات تلاشت وكأنها رذاذ مطر عابر، ليغرقني طوفان أحزان أخي حمد وأنسي على أثره كل شئ حتى نفسي..

توضأت وتأهبت للصلاة " لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" وانبثقت الدموع من عيني حارة صادقة وحقيقة ... يا رب... يا ودود ... يا ذا العرش المجيد ... فعال لما تريد أسألك بعزك الذي لا يرام وملكك الذي لا يضام ونورك الذي ملأ أركان عرشك بأن تهب أخي حمد ذرية تحمل اسمه... يا مغيث أغثني... يا مغيث أغثني... يا مغيث أغثني... لم أفاجأ بعد ذلك بشهور حينما علمت أن زوجة أخي حمد حامل توأم....








وللقصة بقية :




الجزء الثامن عشر






أحبك لكنني موجع *** فهل أنت يا هاجري تسمع
صددت فأدميت مني الفؤاد *** فلم تهدأ النفس والأضلع
ولم أر بعدك ما يستطاب *** ولم أر بعدك ما ينفع
وإن غرد الطير فوق الغصون *** عجبت له صادحا يسجع
وأصبح قلبي كطفل ينوح *** يدور ويطلب من ضيعوا

ورقة وردية معطرة تفوح عذابا وأنينا وقعت في يدي وأنا أصحح دفتر وضحى. لبثت برهة لا أريم وأنا أحدق في الكلمات السجعية أمامي، ثم سحبتها ودسستها بلطف في جيب معطفي وقلبي يخفق بعنف.... ألن يكف هذا الفتي... أن ينسي ... ألن يسلو... حتى متى... وإلى أين؟

تراءى لي وجهه الوسيم ينبثق من وجه شقيقته... عيناه السوداوان تبثاني الشوق والهيام، وابتسامته المميزة تتلو آيات الحب والحنان، ملامحه الوادعة تسألني ألا أبتعد وأسلو...
- أبله... هل تريدينني؟
هززت رأسي وأنا أعيد لوضحى دفترها وأخرج من الفصل إلى حجرة المعلمات لأجدهن يتناقشن بصوت هامس على غير العادة... أمرتني إحداهن بأن أغلق الباب بهدوء فأيقنت أن في الأمر سرا....
قالت فوزية:
- أحلام لقد قررنا جميعا تقديم شكوى في مديرتنا لمكتب الإشراف التربوي بالمنطقة ثم لمدير التعليم أيضا...
وقبل أن أسال لم... تابعت فوزية بصوتها الهادئ...
- أنت تعرفين بأنها غير عادلة في المعاملة بيننا خاصة نحن السعوديات والأخريات بنات بلدها. ففي اجتماعاتهن السرية لا نحضر وفي الحصص نصيبهن أقل منا وهن من يتولين الإشراف على الأنشطة وأمور الطالبات... أيضا معاملة هذه المديرة لنا غير لائقة فهي عصبية تشتمنا بداع وبدون داع وتعاملنا بحدة ولا تقبل تأخيرنا في الصباح مهما كانت الأسباب...
قالت فاطمة:
- و لا تنسي ما فعلته معي قبل أيام حينما دخلت على الفصل واتفقت مع الطالبات أمامي على إلغاء الامتحان دون أي اعتبار لوجودي وكثير من المواقف الأخرى التي لا ننساها...
تكلمت صباح بهدوئها الذي اكتسبته أخيرا...
- هذه الورقة دونا فيها أسماءنا جميعا لنرفعها إلى المكتب الإشراف... هيا دوني اسمك ووقعي على الورقة...
ألقيت كتبي جانيا وأنا أهتف:
- لن أوقع؟
صرخت الزميلات في وقت واحد:
- أحلام...
تجاهلت صرخاتهن قائلة:
- عزيزاتي صدقنني لن نجد أفضل من هذه المديرة... ولكل إنسان في الدنيا سيئات وحسنات... إيجابيات وسلبيات... وإيجابيات هذه المديرة تغطي سلبياتها ولا أخفيكن بأنني مرتاحة جدا معها لدرجة أنني لا أود النقل إلى الرياض...
ضحكت إحدى الزميلات باستهزاء... وتهامسن أخريات، فقالت صباح بدون مواربة:
- مرتاحة مع المديرة أم مع وضحى....

جفت ريقي فجأة وامتقع لوني فلم أستطع الرد... لبثت لحظات أحاول أن أستجمع شتات نفسي وأستعيد هدوئي ورباطة جأشي لأتمكن من الرد... ولكن ماذا أقول وأي كلمات ممكن أن تسعفني؟ فمن الواضح أن أمري قد انكشف بين الزميلات وربما في المدرسة ككل بل قد يكون الأمر قد تعدي الهجرة أو القرية بأسرها... يا إلهي... رغم تكتمي للأمر ومحاولتي مداراته بكل الطرق الممكنة والمستحيلة وإخفاءه بقدر الإمكان، اكتشفت مؤخرا بأن العالم أجمع يعلمون عداي أنا... ترى ماذا يعلمون وإلى أي مدى انتشرت أخباري وعلاقتي بوضحى وشقيقها والمراسلات السرية بيننا...

سيطرت على نفسي بصعوبة وتظاهرات باللامبالاة وأنا أقول:
- إن وضحى إحدى طالباتي المتفوقات لذلك فأنا أحبها وأميزها عن بقية الطالبات...
رنت ضحكة ذات مغزى وقالت فاطمة بسخرية مبطنة:
- نتمني ذلك...
اشتعلت غضبا وامتلأت نفسي بالحنق والخجل والاشمئزاز، فمضيت خارجة لا ألوي على شئ ولم أتناول فطوري... استوقفتني صباح قائلة:
- أحلام ... الورقة...
قلت دون أنظر إليها:
- لن أوقع شيئا لست مقتنعة به...

وفي طريق العودة إلى الرياض جلست إلى جوار صباح كعادتي أحيانا... لكنني كنت أعاني تشتتا داخليا مفزعا وأسئلة شتى تطرق رأسي بلا جواب... ماذا عرفت الزميلات بالضبط؟ هل تحدثت وضحى إلى أحد؟ هل اكتشفت شخص ما علاقتي بسعد؟ وما مدى انتشار هذا الاكتشاف؟ هل هو على مستوى المدرسة أم على مستوى القرية ككل؟ وماذا سيحدث لو انتشر الخبر بين زميلاتي؟ كيف ستكون نظرتهن لي؟ وهل سيصل الخبر لأبي فيقضي على حياتي فورا؟ هل أسأل تلك القابعة إلى جواري بصمت لعلها تخفف بعض ما بي؟

ترددت قليلا قبل أن أهمس لها بوجل:
- صباح.. هل... هل... أعني خبر...
قاطعتني بحدة:
- اطمئني فقد مزقنا الورقة وألغينا الشكوى... هل ارتحت الآن؟

وفعلا تنفست الصعداء بأنني لم أتهور وأسألها ما كنت أنوي معرفته، فمهما يكن من أمر، في لحظة أن أحادث" سعد" بما علمته وأسأله الحل...

وفي الموعد المتفق عليه أدرت أرقام الهاتف بأصابع مرتجفة وقلب واجف وعينين حائرتين... كنت أخشى ألا أجده في المكان والزمن نفسيهما ولا أجد من يشاركني هذا الحمل الثقيل الذي ينوء به كاهلي وسمعتي التي أصبحت في مهب الرياح عرضة لكل عاصفة هوجاء وألسنة لا ترحم... إنني لا أخشى على نفسي فقط، فشرفي وكرامتي ليسا ملكي بل هما أمانة أهلي وأبي وأشقائي وأحملهما كرسول يحب أن يحافظ عليهما، ليعيدهما كما هما إن لم يكن أفضل... إنني أحترم اسمي واسم عائلتي عن عقيدة بأن هذا واجب وليس ترفا... أساسي وحتمي وليس جانبيا أو لهوا وعبثا...

صوته الممتد عبر الأسلاك يزلزلني ... يخترق كياني:
- أحلام ... هل أنت مريضة ... ما بك ...لقد انتظرتك طويلا طويلا دون جدوي... هل أنت بخير؟
وتدافعت الكلمات على فمي... تدفق صوتي يحكي له بحرارة عما سمعت ورأيت، عن خوفي وألمي، ترقبي وضياعي، استهزاء الزميلات وغمزهن... سألته في النهاية... هل يعلم أحد ما عن شئ؟
قال بصوت واثق بعث الهدوء والاطمئنان إلى نفسي الخائفة:
- إننا لا نفعل ما هو خطأ أو عيب... ولا يعلم عن علاقتنا الشريفة سوى شقيقتي وضحى وهى لم ولن تخبر أحد ولا تجرؤ على أن تفعل ذلك وهي كتومة جدا بالمناسبة... لكن لا تخشى شيئا ربما لاحظت إحدى زميلات المراسلات بينك وبين وضحى فتوقعت شيئا ما أو شعروا أنها تخصك بالهدايا وحدك ... لكن .. أحلام... لقد قررت التقدم لخطبتك في أسرع وقت ممكن ولن أقبل معارضتك في هذا الأمر...
شهقت بفزع حقيقي:
- إن أبي يعرفك منذ أن قمت بتوصيلي إلى بيتنا وسيكتشف كل شئ....
قاطعني برقة:
- ليس بيننا شئ معيب ليكتشفه ثم إنني أتقدم لك على سنة الله ورسوله ولا أبغي منه أن يبارك لنا الزواج ولن أرفض أي طلب له حتى لو طلب مال قارون... ما رأيك؟
ضحكت بسعادة وأنا أتناسى وجه أبي... أردف قائلا:
- سأحضر لكم بعد غد ومعي أبي وأمي وشقيقي... وسيجمعنا بيت واحد قريبا إن شاء الله وسأسكن معك في الرياض حالما ينتقل عملك إلى الرياض... لكنني أود أن أسألك ماذا تحبين أن يكون اسم طفلنا الأول؟
ضحكت حتى دمعت عيناي وأنا أجيب:
- ليلة الزفاف سأخبرك....

ولم أنهم ليلتها... إحساس بالسعادة أوصلني لمرحلة التعاسة فلم أضحك في حياتي ضحكة قط إلا وأتبعتها بكلمة (اللهم اجعله خير ) هكذا هي أنا أرى السعادة تحمل التعاسة و ألوان الفرح المضيئة تخفي بين طياتها ألوان الحزن القاتمة ولا تعبر البسمة حتى تعقبها دمعة ، لذلك أخشى أيام السعادة وأرتعد خوفا من فرح آت لا ريب ، فخنقت فرحتي تلك الليلة بتشاؤمي المعهود ولم أطلق لخيالي العنان كبقية الفتيات لأتصور ليلة زفافي الرائعة وثوبي الأبيض الناصع يحوطني سعد بذراعه ويجتاز معي خطوات نحو الأمل والسعادة القصوى ... كلا ... كنت أركز أفكاري فقط على الأيام القادمة وما سيحدث بها ...

يوم الجمعة الساعة السادسة مساء ... ما إن خرجت من الحمام حتى تلقفتني زوجة أبي هامسة بأن هناك ضيوفا يرعبون في رؤيتي ... ارتعدت أوصالي بعنف وتسارعت دقات قلبي وأنا أسألها من هم لتشير علي بأن أتبعها بسرعة ... أدركت أنه سعد ... هرعت إلى حجرتي لأنتقي ثوبا للمناسبة ، ولسرعتي واضطرابي لم أجد الثوب الملائم فأخرجت كل أثوابي من الخزانة وألقيتها على الفراش ، ثم وقع اختياري على زي المدرسة اليومي ، قميص أبيض محلى بنقوش سوداء و تنورة سوداء طويلة ثم شرعت في تهذيب شعري الطويل وتجميل وجهي ببعض الرتوش الخفيفة ... وأسرعت إلى حجرة الضيوف لأجد وضحى بوجهها الباسم الخجول تجلس إلى جوار والدتها ... أخذت مكاني بينهم لحظات قبل أن أسمع صوت أبي وهو يعلو ثم صراخه الذي أخذ يتردد في أنحاء البيت :
- ابنتي ليست للزواج ... إنها مخطوبة ...

نزلت علي كلمات أبي كالصاعقة ، فلم أحر جوابا بل مضينا نتبادل نظرات صامتة ذاهلة تغلب فيها الدهشة والتعجب على أي إحساس آخر ... ثم علا صوت أبي مرة أخرى ... علا أكثر فأكثر فملأ الفضاء من حولي وسد جميع الثغرات ليختبئ الصمت في أعماقنا خوفا و خجلا ... قال أبي مواريا آمالي التراب وموجها أولى رصاصاته إلى قلبي :
- قلت لك ليس لدي فتيات للزواج ... إنس الأمر ولا إلى هنا مرة أخرى وإلا طردتك ... ابنتي زفافها بعد شهر واعتبر نفسك مدعوا منذ الآن ...

ضباب كثيف هبط على نفسي فجأة ، فلم أعد أرى شيئا أمامي سوى سماء سوداء كئيبة وطرق تلتف حولي كأفاع سامة تود التهامي ... وخراب في كل مكان ... انهارت معنوياتي وفقدت كل أحلامي دفعة واحدة ، فلم أعد أرى يستحق العيش لأجله أو تحمل الحياة من أجل عينيه ... جفت عيناي فلم أبك وانهمرت دموع الداخل بلا حساب و تزدحم الشهقات الباكية في صدري دون أن تخرج، فتفرز غيظا وقهرا بلا حدود ... أسرعت خارجة من الحجرة دون توديع للضيف إثر كلمة أبي القاطعة ( مع السلامة ولا تريني وجهك مرة أخرى ) .

استوقفتني زوجة أبي فد فعتها عني دون أن أرى ومضيت أصعد السلالم وأشلائي تتمزق مع كل خطوة أخطوها وصوت أعماقي يبعثرني هاتفا: لماذا... لماذا ... لماذا يا أبي ؟ ليأتيني الجواب سريعا على غير انتظار بصفعة مدوية على صدغي ثم أخرى وأخرى وهو يهدر غضبا :
- أوصلك إلى البيت ثم حضر ليخطك ... ما معنى هذا ؟ ما معنى هذا؟ على حافة الانهيار كنت حينما أمسكت أذناي بتلابيب صوته الجهوري وهو يصرخ :

- الفجور والانحلال مكانهما ليس بيتي ، قبل الآن ... قبل أن أغيب عن الوعي أطلق على قلبي رصاصته الأخيرة وحكم علي بالإعدام ...

- استعدي ... زواجك على أبي علي بعد واحد فقط.. لقد طلبك مني مرات عديدة والآن فقط سأجيبه لطلبه ...

أبو علي ... من هو أبو علي هذا... رباه ... كلا ... إنه الشيخ السبعيني تاجر قطع الغيار ،زوج لامرأتين وأب لخمسه عشر ولدا و بنتا ... إنه مصير سعاد يعود لي مرة أخرى ... كلا بل إنه أسوأ من مصير سعاد ، ثم دخلت في غيبوبة أنستني كل شيء مؤقتا.